من العصر الذهبي إلي العقد الباهر
قصتي مع الصين
شغفي بالجغرافيا والتاريخ بدأ معي منذ طفولتي، وملأ عليَّ جوانب نفسي، وكنت أتفحص الخرائط بنهم ومحبة كمن يطالع رسائل الغرام، ولا زلت أذكر تلك العلاقة الغامضة بيني وبين خريطة الصين، كنت أنظر إليها بإعجاب وتعلق غير مفهوم، وأتحدث نفسي وتحدثني أنني سأزور يومًا ما كل متر على هذه الخريطة.
كبرت وكبر معي شغفي بالصين، وزاد علمي واطلاعي على جغرافيا الصين وتاريخها، وقرأت عن حضارتها العريقة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وإنجازاتها العلمية والمعمارية المذهلة،
وعن طبيعتها الخلابة المتنوعة عبر مساحتها الشاسعة البالغة 9،597،000.
قليلة هي الدول التي تتمتع بهذا العمق المكاني والزماني والحضاري، العمق الذي جعل من الصين نمطا فريدًا، وشخصية أصيلة، فأنت في الصين يمكنك أن تعيش الحياة، الحياة بكل ما تحمله من زحم وجمال ومتعة، ترى وتسمع كل ما يأسر النفس ويمتع الروح، ومما زاد من هذا العمق، وأصَّل هذه الشخصية هو يتمتع به الشعب الصيني من فضائل أخلاقية ونفسية نادرة، مثل الانضباط والاحترام والمثابرة، وهو ميراث حضاري لا تتمتع به الدول حديثة التمدن.
لذلك وغيري كانت زيارتي إلى الصين ليست مجرد حلم عاشه طفل، بل كانت لقاء مع الحياة ومع التاريخ، زيارة يؤكل الوقت فيها ثانية بثانية، وتعاش الحياة زخة بزخة، إن جمال الطبيعة وروعة التضاريس في الصين يتجاوز مجرد كونها مناظر خلابة، تخلب النفس، وتأخذ بمجامع الفكر، إن لها أبعادًا روحية وتأثيرات نفسية عجيبة، تطوف بك بين هؤلاء البشر الملهمون الذين عاشوا بين تلك الروائع، وأخرجوا تلك الحضارة الرائعة.
إن حديقة تشانغجياجيه الوطنية مثلًا تعتبر تشكيلًا استثنائيًا على مستوى العالم بفضل أعمدة الصخور الرملية العمودية الشاهقة التي تشكل أبرز معالمها التي تسمى أحيانًا بسبب شموخها اللافت (الأعمدة السماوية)، أبرز هذه الأعمدة هي جبل (سوهنغا) الذي شكل مصدر الإلهام للمناظر الخيالية في الفيلم السينمائي الشهير (أڤاتار) للمخرج المبدع جيمس كاميرون.
إن هذا الإلهام هو بالتحديد ما أعنيه عندما تحدثت عن خصوصية الأرض الصينية تاريخيًا وجغرافيا وحضاريا، هذا الزخم الروحي والتأثير النفسي نحو سلام الروح وسكينة النفس.
هناك بلا شك خصائص استثنائية صبغت الحضارة الصينية عبر تاريخها الطويل، أرصد هنا باختصار بعض تلك الخصائص:
التعددية العرقية: تضم الحضارة الصينية ما يقرب من خمس وستين مجموعة عرقية مختلفة وهذا التعدد العرقي والتنوع المتناغم ساهم في قوة الحضارة الصينية وثقافتها الفريدة.
اللغة والكتابة: فالحروف الصينية من أقدم الرموز المكتوبة في العالم، هذا بخلاف دورها المعروف في اختراع الورق، والطباعة، وساهم هذا البعد الثقافي (اللغة والكتابة) في توحيد الثقافة الصينية، وتكوين الوحدة الوطنية، رغم التنوع العرقي المذهل، والذي هو داعٍ إلى التدافع والتنازع لو كان غير الصين.
الاندماج مع الطبيعة: تدعو الحضارة الصينية إلى معرفة قيمة الإنسان، وتحرره من قيود المادة والشهوة، وتأكيده ككيان روحاني مميز لا يسيطر عليه شيء في هذا العالم مهما بلغت قوته المادية.
تحقيق السلام: كان ولا يزال السلام من القيم السامية التي اعتمدتها الثقافة الصينية القديمة، وسعت إلى تحقيقها وتعميقها في نفوس الناس، وجعله قضية تشمل الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، والحديث هنا عن السلام النابع من النفس، الضارب في أعماق الروح منعكسا على سلوك الفرد وعلاقته بنفسه وبالناس.
الالتزام بالفضيلة: واحدة من أهم خصائص الحضارة الصينية والشخصية الصينية الالتزام والفضيلة واحترام النفس واحترام الآخر، عمقت هذه الخصيصة من رقي الحضارة الصينية، ورفاهية أفرادها، كما أنها انعكاس طبيعي في نظري للخصيصة السابقة وهي تحقيق السلام بمعناه العميق، فالفضيلة والاحترام والالتزام الذي ميز الصينيون هو واحد من ثمرات فلسفتهم في السلام، ونظرتهم إلى الحياة.
الطب والجراحة: برع الصينيون القدماء في الطب والجراحة، أدركوا بشكل علمي مقنن أجزاء، جسم الإنسان واكتشفوا علاج العديد من الأمراض، واستمرت تلك البراعة، والتفوق في الطب إلى العصر الحالي، ويعتبر الأطباء الصينيون من الأفضل في العالم، وقد رأيت من ذلك عجبا.
التعليم والثقافة : تقدير العلم والعلماء، والسعي إلى المعرفة خصيصة ميزت الصينيين قديما وحديثا، وبرعوا منذ القدم في الحساب والهندسة والفلك والكيمياء وغيرها من العلوم، واخترعوا الورق، وهم سبق حضاري خالد، يدين به العالم للصين، كما بنوا الجسور وشقوا الترع، واكتشفوا طريق الحرير، وهو بلا شك تراث علمي خالد، وجدير بالذكر هنا أن العلم والثقافة كانت ولا زالت في نظر الصينيين وسيلة للسمو بالنفس وضبط السلوك الفردي والسلوك الجماعي، وهذا حاضر بقوة في مناهج التعليم المعاصرة في الصين اليوم.
من اللحظة التي تضع فيها قدمك على أول أرض صينية، ومن اللحظة التي تتعامل فيها مع صيني سترى خصائص تلك الحضارة ماثلة حاضرة، وأسجل هنا ملاحظة شخصية تماما ملأت نفسي عندما رأيت سور الصين العظيم، فسور الصين ليس مجرد عمل معماري عظيم وملهم، سجل حضوره منذ آلاف السنين كواحد من عجائب الدنيا، ولا زال يمحل تلك الصفة، وينظر إليه كمعجزة حضارية معمارية.
وليس مجرد عملي حربي عسكري معجز، يمثل الهمة العالية والمثابرة الخارقة للشخصية الصينية، وفي الوقت الذي تهدم فيه سور أدريان في بريطانيا وانمحت آثاره بقي سور الصين
شامخا شاهدا على حضارة عظيمة وشعب ملهم.
ليس مجرد إنجاز معماري مذهل، وليس مجرد عمل حربي معجز. إن سور الصين في نظري يمثل الشخصية الصينية نفسها، وصنو الحضارة الصينية، فهو يحمل كل ما تحمله الشخصية الصينية والحضارة الصينية من مزايا وخصائص وصفات، الصمود والشموخ، مع القدم الراسخ والإصالة، كما يربض في سلام وسكينة يشهد عل عظمة بانيه دون صخب أو ضجيج، هو يمثل قوة الصين وثقتها بقدراتها وإمكاناتها.
صحيح أنا لا أجيد اللغة الصينية (وهذا هو مشروعي الآن)، لكن ذلك لم يقف حائلا بيني وبين زيارة الصين والاطلاع على حضارتها الخالدة وشعبها العريق، الصينيون ودودون قادرون على احتوائك ومدك بالمساعدة والعون، وأسجل هنا إعجابي باللغة الصينية باعتبارها واحدة من أقدم اللغات المكتوبة في العالم، تضرب في أعماق التاريخ لأكثر من ستة آلاف سنة، شاهدة بنقوشها وكتاباتها على تاريخ الصين العظيم، ويتحدث بها أكثر من مليار ومئتي ألف شخص، كما أنها تعتبر أيضا لغة رسمية في سنغافورة وهون كونج وماكاو، وهذا يجعلها أكثر اللغات حضورا في العالم، حيث لا يوجد لغة في العالم يتحدث بها هذا العدد من البشر، كما أن المقبلين على تعلمها يزيد يوما بعد يوم.
وأخيرا أسجل هنا رغبة شخصية، وهي أن الصين وهي القوة الوحيدة في العالم اليوم القادرة إعادته إلى التوازن، رغبتي أن تلقي الصين بثقلها الحضاري والتاريخي والاقتصادي والبشري من أجل القضاء على غطرسة الغرب ورأسماليته الخبيثة التي ملأت الأرض ظلما ودما.
إن وجود الصين بقوتها وقيمتها منع عن العالم الكثير من البلايا والمصائب كانت لتحدث لولا ما قامت به الصين من جهود وما مثلته من مواقف، وهو ما يشي بأن لديها الكثير مما يمكنها تحقيقه، وهي ستحدد متى وكيف وأين ستتخذ موقفها، ولدي هذه الثقة بأن مستقبل الصين أشد قوة من حاضرها وأكثر إشراقا.