ادعى كاليبسو، عشت حياتي وحيدة فوق جزيرة حيث أفيق عند الفجر
شاهدته منذ زمن بعيد يصارع موج البحر، أدركت حينها انه يغرق، فجلبته الي
كلمات كتبتها وتغنت بها مطربة الأغاني الشعبية الأمريكية (سوزان فيجا) عام ١٩٨٧، ترسم من خلالها معاناة الحورية (كاليبسو) بعد فراق (اوديسيوس) الذي ابقته فوق جزيرتها (أوجيجيا) لسبع سنوات.
تنقل الأغنية وجهة نظر الأنثى التي لم يهتم بها هوميروس في ملحمة الأوديسة، وفيلم (كاليبسو) للمخرج (لوكا سيفيري) إنتاج عام ٢٠١٩ يسير على نهج (هوميروس) لكن في ثوب حداثي، مضحيًا بصوت الأنثى من أجل حيرة بطله (أوديسيوس)
كاليبسو في الملحمة الهوميرية
يرد ذكر الحورية في النشيد الخامس من الملحمة، عندما يبعث إليها (زيوس) كبير آلهة الأولمپ برسوله (هيرميس) لتطلق سراح (أوديسيوس) وتدعه يعود إلى موطنه. نستشف من ردها مأساتها مع الآلهة، وهي تقول:
"ما أقساكم، أيها الآلهة، وما أسرع حسدكم أكثر من غيركم! حيث إنكم تحقدون على الربَّات عندما يرغبن في الزواج من البشر علانية، وعندما تتخذ إحداهن رجلاً كرفيقٍ لها في فراشها العزيز".
لا يسهب هوميروس ولا يهتم كثيراً بشخصية كاليبسو لأن رحلة اوديسيوس هي الأهم، ولإنها من الشخصيات الثانوية اللازمة لتطور شخصية البطل، رغم انها الشخصية الوحيدة – من بين الآلهة، والوحوش، والحوريات، والساحرات التي يقابلهم اوديسيوس اثناء عودته لموطنه التي لم يلجأ معها اوديسيوس للمكر والحيلة المعهود بهما
لكن ربما بسبب ما تقضيه الطبيعة الشفهية لنقل الملاحم انذاك، والتركيز على رحلة البطل، وايضًا بسبب الصورة السلبية المهمشة للمرأة في اليونان القديمة، فغالبًا ما تعكس الشخصيات الأنثوية في الأساطير المخاوف الذكورية انذاك، وكاليبسو واحدة منهن
المعالجة الحديثة في فيلم كاليبسو ٢٠١٩
لا تختلف المعالجة الحديثة في الفيلم كثيرًا عن الملحمة، إذ يركز العمل على معاناة (أوديسيوس) المعاصر الذي يفيق ذات يوم فاقدًا ذاكرته، ليجد نفسه وسط صحراء مقفرة ليس فيها سوى امرأة تدعى (كاليبسو). تحاول إقناعه بانتهاء العالم خارج حدود جزيرتها الصحراوية، حيث باتت هي والصحراء مسكنه الوحيد.
تتخذ (كاليبسو) من ثوب الشامان (ساحرة دينية) شخصيتها الغامضة، ولما لا، فهي التي يعني اسمها في اليونانية «التي تخفي الحقيقة»، تعكس دلالة اسمها دورها في حكاية (أوديسيوس)؛ فهي تبقيه في جزيرتها وتوفر له كل سبل العيش والرغد، لكنها أيضاً تخفي عنه حقيقته.
في البداية، يُوهمنا الفيلم أنها قد تكون نفس المرأة التي كان يهاتفها (أوديسيوس) قبل فقدان ذاكرته أثناء عودته عبر الصحراء في سيارته. ثم فجأة يفيق ليجد نفسه هائمًا على وجهه في الصحراء، حتى يفقد وعيه من الإعياء، ليستيقظ بين ذراعيها. وهي تحاول إقناعه أنه لم يعد هناك أي عالم خارج حدود المكان الذي تسكنه، لكنه لا يستكين ولا يرضى بإجابتها، ويغدو باحثًا عن حياة خارج حدود المكان
رمزية العلاقة والاختبار
تزداد حيرة (أوديسيوس) المعاصر مع حالة فقدان الذاكرة، وتختلف هذه النقطة مع الأسطورة، التي تصوره غارقاً في أحزانه، منعزلا على شواطئ الجزيرة، بسبب اشتياقه لزوجته وولده ووطنه إيثاكا. تمثل (كاليبسو) في الملحمة الاختبار الحقيقي الذي قد يواجه أي إنسان عندما يرضى بالعيش الهانىء داخل منطقة راحته دون السعي وبذل أي جهد للخروج منها
لهذا يصورها (هوميروس) بالفاتنة المغوية التي تعرض الخلود ومباهج العيش مقابل البقاء والاستقرار. أما في الفيلم، فهي تعرض عليه أيضًا البقاء معها لأنها الملاذ الأخير المتبقي أمامه. ولا تظهر حقيقتها إلا مع تقدم الأحداث، عندما يسعى ويجوب أطراف الصحراء بحثًا عن مخرج. وحينما ييأس ويقتنع بكلامها، تتغير طبيعته، ويحاول فرض سيطرته عليها وعلى الجزيرة؛ فتعيده إلى رشده بالقاء السحر عليه، لتعيد معه الكرة من جدي
تتضح بعد ذلك صورة (كاليبسو) في الفيلم؛ فهي ساحرة تعاني من الوحدة دون معرفة أسباب عزلتها. لذلك تحاول جاهدة إبقاء أوديسيوس معها رغماً عنه، وهي بذلك تمثل نوعًا من التحيز الذكوري الذي يتوجب على (أوديسيوس) تخطيه حتى ينال حريته وهويته الذكورية، ومن خلال علاقتها المسمومة به تعيقه عن استكمال رحلته
لذلك يتخذ سيناريو الفيلم الشكل الدائري، بمعنى أن ما نبدأ عنده هو ما ننتهي إليه، يظل (اوديسيوس) سجين (كاليبسو)، وعندما يتمرد عليها تلقي عليه بسحرها ليعود إليها من جديد، يزيد الفيلم من غموض شخصية البطلة وصحة كلامها، عندما يسترجع (اوديسيوس) ذكرياته للحظات قصيرة، يتذكر انه جندي وقد ارتكب جرائم كثيرة بحق الابرياء، لذلك اوقعت عليه الالهة عقابها وحكموا عليه بالتيه، فما كان على (كاليبسو) إلا ان تلقي عليه بسحرها لتهدئته، فيظل بذلك الفيلم حائرًا في حقيقة مصاب (اوديسيوس)، هل هو جندي يعاني حقًا من صدمة ما بعد الحرب، و(كاليبسو) هي التي قدمت له يد العون، أم انها شخصية شريرة تحتجزه رغمًا عنه تجنبًا للوحدة
يقتصر الأداء في الفيلم على شخصين اوديسيوس ( الممثل الكسندر روبرتس)، وكاليبسو ( ناتالي مارشانت)، إذا ما توقفنا عند الحوار بينهم خلال الأحداث، هو دائما يتساءل، وهي تجيب بكلمات غامضة أشبه بالالغاز، وان كانت هذه الألغاز والعبر تلائم طبيعة شخصيتها الشامانية، لكنه ايضا يسلب منها كأنثى التعبير عن ألمها الداخلي.
ثمة شخصية ثالثة حاضرة بقوة في الأحداث، وهي الصحراء. التي تهيم فيها الكاميرا على وجهها مثل (أوديسيوس)؛ وتظهر الزاوية الواسعة المستخدمة اطرافها المترامية. فهي نهاراً مع استخدام اللقطات البعيدة والتعريض الزائد للضوء تظهر ملتهبة بحرارةالشمس والجفاف مستشريا فيها، ولا تحول نيران التدفئة من استئناس وحشة الليل البهيم فيزيد الإحساس بالعزلة، فتغدو الصحراء سجنا بالليل واثناء النهار
أيضًا، ألوان ملابس الممثلين تساهم في تعزيز الإحساس بفقدان الذات من خلال إختيار التماثل اللوني، حيث تمتزج ألوان ملابس (أوديسيوس) مع طبيعة البحر، والصحراء وكأنها تبتلعه بداخلها فلا مفر منها
ختاماً، يوحي النسيج الموسيقي الذي وضعه الموسيقار (ماركو سكورسوليني) باستخدام الوتر وآلات النفخ الخشبية بالطبيعة البدائية للمكان، إلى جانب أغنية “لن أدعك ترحل” للمغنّي (سيمون ميركوري)، التي تصف كلماتها نوايا (كاليبسو) تجاه (أوديسيوس). الصوت الرجولي الذي يتغنّى بالكلمات يعمق الطبيعة السامة لهذه المرأة، فهي أنثى تنطق بلسان رجل عن رغبتها في عزل الآخر رغم إرادته
يستعين الفيلم ببعض الاقتباسات من الملحمة، منها
"لو عَرفَ قلبك ما ينتظرك من عذاب، مُقدَّر لك أن تقاسيه قبل بلوغ وطنك، لآثرتَ البقاء هنا".
يجتث الفيلم هذا الاقتباس من سياقه الأصلي ليعزّز من الطبيعة السامة المتحكمة ل(كاليبسو) في الفيلم، فهي تلعب دورَ الإلهة المتحكمة في مصيره، في حين أنها وردت على لسانها أثناء توديعها لأوديسيوس بعد رضوخها أمام سطوة أوامر (زيوس)
ربما يُعد فيلم (كاليبسو) الوحيد الذي يحكي حكاية كاليبسو و أوديسيوس في ثوب حديث، وهو إنتاج مستقل يمتاز بتصوير ساحر يبرز طبيعة المكان الذي يزيد الحكاية غموضاً. يحتسب للمخرج جرأته في اختيار جزء من الملحمة الأدبية الكبيرة، مثلما فعل مؤخراً المخرج الإيطالي (اوبيرتو بازوليني) وتناوله للجزء الأخير من الملحمة الخاص بعودة اوديسيوس الي موطنه في فيلم يحمل عنوان العودة.
في المقابل، يأتي التناول الحديث لحكاية (كاليبسو) على حساب بناء وتصوير شخصية الأنثى التي يحمل الفيلم اسمها، فهو لا يختلف كثيرًا عن تهميش (هوميروس) لها لصالح بطله المقدام
جدير بالذكر أن المخرج البريطاني (كريستوفر نولان) يعكف على تصوير نسخته الخاصة من ملحمة الأوديسة، ربما سيهتم بوضع حكاية لهذه الإلهة الوحيدة في منفاها على جزيرة أوجيجيا.