"القصة قد تكون حقيقية وقد لا تكون"
تلك البيوت الأثرية رائعة، لها رونق مختلفًا، تكاد تشتم عند مرورك بها عبق التاريخ والعظمة وربما بعض الذكريات الثمينة وهذا البيت ليس مختلفًا، على الأقل ليس في الظاهر..يقف ذلك البيت الأثري شامخًا غير ممسوسًا ولا مهزوزًا في شارع جانبي بلندن منذ أكثر من 300 عام ..لكن "إحذر"، "لا تقرب هذا البيت بالذات!".."إياك أن يجرك الفضول وتصعد وتستكشف أركانه!" هذا ما يردده سكان منطقة كامبريدج ويحذرون كل غريب ويمنعون أطفالهم من اللعب بالقرب منه. إذًا لماذا يخاف
الناس من هذا البيت ولم يحذرون من يجهل به؟باب البيت ضيق للغاية وسلالمه معتمة لا يخترقها النور وروائحه كريهة ولا عجب فلا يطأ أحدًا البيت لتنظيفه أو الإهتمام به، كان مهجورًا وبقى مهجورًا وقد كانت البيوت في عصر بناءه تُشيد جميعها بأبواب ضيقة حيث كان رد الملك جورج الثاني عندما يُسأل عن السبب : الأبواب ضيقة ليكون هناك فارق بين أبواب البيوت وأبواب السماوات!
ويبدو أن الناس كانوا خائفين من البيت في عصره، أي أن الرعب قديمًا وكان يسألونه لم لا يهدم البيت ما دام يشكل مصدرًا للإزعاج لدى الجميع فكان رده البليغ: "ولماذا لا نشنق لهم الملوك ورجال الدين ماداموا يخافونهم؟"
وقيل أن بعدها حدثت محاولات عدة بالفعل لهدم البيت ومن ضمنها محاولات لجورج الثاني نفسه عندما إقتنع بضرورة هدمه لكن كل من نوى تراحع عن الأمر في النهاية! دون أي تفسير أو تبرير وكأنه سر خطير يخاف معه متخذ القرار أن يفصه فيصيبه أو غيره أمر..
حتى جاء رجل شجاع إسثنائي أو جريء غبي قرر أن يضع حدًا للغموض ويعطي لنفسه والناس إجابات هو السير "كوش" أستاذ الأدب الإنجليزي وحاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كامبريدج وأكسفورد وبريستول وأبردين وأصدر 53 كتابًا ورئيس تحرير مجلة "النثر" وله دراسات في الفلك وعلم النفس كما اتجه في أواخر أيامه إلى دراسة الروح والموت .. كتب في مذكراته "صدمتني إجابات الناس المبهمة في البداية ..ولكن هذا ما زادني إلا إصرارًأ وتصميمًا على المضي قدمًا لمعرفة سر هذا البيت " وبعدها قرر..لا ليس زيارة البيت والمرور به ثم الرحيل..بل أن يبيت!
قبل أن يتوجه إلى البيت ويبدأ رحلته الجريئة بشكل مبالغ ذهب إلى أرشيف جامعة "كامبريدج" وقام بالعثور على مستندات توثق تاريخ هذا البيت..
أصابت الحارس صدمة عندما علم بنية "كوش" واتهمه بالجنون المطبق.. فُتح الباب ويبدو أن كان مُغلقًأ لسنين طويلة فإنبعثت رائحة الأتربة العتيقة العفنة وقبل أن ينسحب الحارس ليترك صاحبنا وحده قال له: "أريد أن اسألك سؤالًا يا ولدي: ما هو نوع الزهور التي تحب أن أضعها على قبرك؟!"
ثم مشى بسرعة كأنه يخشى أن يصيبه ما يسكن البيت..
يقول السيد "كوش" ساردًا في كتابه "خرافات مفيدة": "من عادة الناس في لندن أن يكونوا جمعيات لكل رغبة خاصة بهم حتى لا يتهمهم أحد بالجنون أو بأنهم عنصر هدام في المجتمع..وحتى يستطيعوا ممارسة رغباتهم تلك دونما رقيب أو سخرية من أحد المتطفلين..وكان لكل جمعية مكان للتجمع ومواعيد أيضًا والأماكن إما منزل عضر من أعضاء الجمعية أو نادٍ ولا يُعرف على وجه الدقة ماذا يصير داخل تلك الإجتماعات ولا يهم طالما أن حرية الأعضاء لا تتعدى حرية المجتمع حتى كانت سنة 1730 عندما قرر 7 من الشبان تكوين جمعيتهم أيضًا ألا يحق لهم كالجميع؟! وكما الجميع أعطوا لجمعيتهم إسم وهو "جمعية السبعة الدائمين أحياء أو ميتين" وكان ميعاد لقائهم هو الثاني من نوفمبر من كل عام يوافق "يوم الأرواح" وفقًا للمعتقدات السائدة آنذاك أما محتوى إجتماعاتهم فلم يكن محددًا فقد اكتفوا بسب ولعن كل المقدسات والأديان والمعتقدات! والكلام في مواضيع عدة ليس لها علاقة ببعضها مجرد محادثات عادية.. واليوم التالي يجتمعون مرة أخرى ليكرروا ذات الطقوس واليوم التالي يتكرر الموعد وهكذا حتى نهاية الأسبوع "7 أيام" حتى يلتقوا العام التالي ليلة 2 نوفمبر ويستمر الأمر كل سنة..
هؤلاء الشباب كانوا منظمين في أمر ما وهو إحتفاظهم بسجل ضخم يدونون به كل ما صار في جلساتهم ، قد يبدو شيئًا عاديًا إنما في الحقيقة من المفترض أن هؤلاء الشباب يكونون دومًأ سكارى خلال الجلسات، يحتسون الكأس وراء الكأس ولا تنضب الكؤوس فكيف يكونون بوعيهم كي يدونوا خلال الجلسات أو حتى بعدها كل تفصيلة صارت بمنتهى الدقة والأناقة وجودة الخط! وها هي لائحة الجمعية الداخلية التي تتصدر صفحات السجل:
تتكون الجمعية من سبعة أعضاء..أحياء أو موتى فالذي يموت منهم يظل عضوًا فإذا مات جميع الأعضاء إنحلت الجمعية ولم يعد لها وجود، الأعضاء دائمون وغير مقبول إنفصالهم عن الجمعية فيما بعد، لا تقبل الجمعية أي عضو جديد، تنعقد الجمعية سويًأ يوم 2 نوفمبر من كل عام ومن يتخلف عن الحضور يوقع عليه الأعضاء العقوبات المنصوص عليها، ويمكن في حالة الضرورة تغيير اسم الجمعية إلى "جمعية الأدباء الصامتين حتى الموت" إذا وجد الأعضاء أنه لم تعد هناك فائدة من الحديث أو إذا فقدوا جميعهم أي رغبة في الكلام هنا يجب أن يصمتوا إلى الأبد...
في الإجتماع الأول يقول "آلان ديرمو" رئيس الجمعية ذا الجنسية الفرنسية: "لقد قررنا أن نجتمع اليوم..لابد أن يكون هناك سبب وجيه لاجتماعنا هذا"
يرد أحد الحاضرين "ليس من الضروري! فليس هناك سبب وجيه لكي تكون أنت أنت أو تكون موجودًا"
ويرد عضوًا آخر :"إذا فقد إجتمعنا دون سبب"
ويعقب آخر :"ليس من الضروري أن يكون لكل شيء سببًا نتناقش سويًا لإننا بحاجة إلى الكلام ، لأننا إذا كتمنا ما نريد الإفصاح به لمتنا كمدًا وواضح أننا لا نريد أن نموت فقد لبسنا ملابس ثقيلة إتقاء للبرد القارص الغدار وأكلنا خوفًا من الجوع وشربنا بحثًأ عن الدفء وضحكنا حتى لا يغلبنا اليأس والحزن ويسيطر على أوصالنا وحكينا عن الفتيات التي وقعن في غرامنا كي نثبت أن رجولتنا ناجية هي الأخرى!" وهكذا كل جلسة تنتهي بمحظر موثق ومحفوظ حتى يوم 2 نوفمبر 1766 وكانت ممهورة بتوقيعاتهم الآن لنكتشف سويًا ماذا صار لكل منهم....
"آلان ديرمو" كان أول الراحلين بسبب طعنة من سيف عدو له خلال إشتباك وكان ذلك عام 1763 يوم 30 أكتوبر قبل الإنعقاد ب3 أيام لكن في السجلات نجد أن السبعة قاموا بوضع إمضاءاتهم المعتادة وسُجل أن ديرمو قال خلال الإجتماع : "إنني ملتزم باللائحة فالعضو ملتزم بالحضور حيًا أو ميتًا!" فيسأله عضو :"معقول ماذا تقوله؟!" فيرد "نعم معقول لا يوجد معقولًأ خالصًا في هذه الحياة!" ثم في آخر المحضر يقرون بوفاة رئيس الجمعية!
قد يقول قائل أنهم ادعوا وجود "آلان" وعلموا بوفاته وزورا المحضر، المشكلة أن آلان توفى في باريس وليس لندن ونقل الأخبار في تلك الحقبة مان يحتاج إلى أسابيع فكيف علموا؟؟ وتم بعدها إنتخاب الأستاذ "بلاسيس" لرئاسة الجمعية..
في العام التالي إجتمعوا وفي المحضر أعلن "إدوارد ماكفيل" أنه أصبح عضوًا ميتًا فقد وقع من على صهوة حصانه أثناء تأدية عمله كضابط بالحرس الملكي الإنجليزي وقد وثق هذا بالفعل في السجلات الحكومية فقد توفى يوم 5 يوليو 1764 ولم يخبرهم "إدوارد" ذلك منذ بداية الجلسة أي أنهم إكتشفوا في نهايتها أنهم كانوا يتحدثون مع إثنين من الموتى! وبالطبع وجد خط إدوارد وتوقيعه مثل بقية السنين التي قبل ذلك..
في العام التالي إجتمعوا السبعة وأعلن عضو ثالث أنه أصبح عضوًأ ميتًأ وبنهاية ذات الأسبوع أعلن عضو رابع أنه أصبح عضوًأ ميتًا وبعدها بشهور توفى الخامس وفي أثره السادس..
في يوم 2 نوفمبر 1766 ذهب العضو الوحيد المتبقي على قيد الحياة والغريب أنه كتب في المحضر أنه لم يشأ الذهاب لكنه وجد نفسه يمشي رغمًا عنه في الطرق المؤدية إلى البيت وكأن شيئًا يجره جرًا وهو لا حول له ويجد أمامه الباب فينفتح ويحمله شيء من على السلالم وحتى المجلس وكتب أيضًا أنه قرر أن يحرق المحاضر والوثائق التي تدل على هذه الطقوس المجنونة المرعبة، ثم إنقطع بقية حديثه... لم يحترق شيء إنما بدلًأ منه كُتب أن العدد القانوني قد إكتمل وأن على العضو المتبقى أن يعلن عن نفسه عضوًا ميتًا وقد تم إثبات وفاة "بلاسيس" العضو المتبقى في ذات الليلة عندما عاد إلى بيته الساعة العاشرة مساء أما ساعة إنهاء المحضر والمدونة به فكانت الحادية عشرة وأربعين دقيقة... ويختمون الإجتماع فتحطيم كل مقتنيات البيت من نوافذ وأبواب وأطباق وأكواب وما بقى غير محضر الجلسات الذي وقع في يد صاحبنا "كوش" من أرشيف جامعة كامبريدج والناس ف 2 نوفمبر من كل عام يسمعون صريخًا مدويًا وضوضاء لأطباق تتكسر وأثاث يتطاير..
صاحبنا لم يسمع أو يشعر بأي شيء خلال الليلة بل نعم بنوم هانىء مريح ليته نام مثل هذا كل ليلة أما عن موته فقد توفى بعدها في يوم 2 نوفمبر العاشرة مساءً 1940!.....