-مش ناوية تتكلمي بقى.
-أتكلم ف ايه؟
-اللي مخبياه
-انا مش مخبية حاجة.
تمدد على كرسيه وكأن الجلسة أصبحت أكثر إثارة للتو وأكثر راحة بالنسبة إليه في ذات الوقت فتلك هي لعبته التي يحترفها وفي ثنايا الإثارة يجد راحته وإشباع غرائزه...
-انتي ليه مش قادرة تفهمي، ان هنا غير أي مكان تاني؟
-ازاي؟
-هنا المكان اللي بترمي فيه كل التقل اللي عليكي وجواكي عشان تخرجي للدنيا خفيفة.
-هو انت ليه مُصِر أن جوايا تقل وحاجات مخبياها؟
-أي حد جواه تقل وحاجات مخبيها ولا ميبقاش إنسان.
أخرجت نفسًا طويلًا يدل على تململها وشعورها بالضيق ثم عادت فنظرت إليه بعد أن كانت هربت من عيونه وقالت بنبرة هادئة وحادة في آن واحد:
-وبعدين؟
-وبعدين انتي؟
-طيب غششني، اديني خيط وانا همشي عليه.
"يا لها من أفعى، لا تسير أبدًا في خطوط مستقيمة ، دائما ما تلتوي وتهرب، تتسلق رأسه وتعتصر أفكاره وما يظن به من ذكاء وتبخ سمومها في عقله"
-ايه الصدمة اللي ممكن تكون بدلت شخصيتك؟
-وهو البني آدم محتاج صدمة؟ ممكن يتبدل من غير صدمات أو عامل بسيط يحفز الشخصية المستخبية جواه وبعدين تخرج وتنتشر زي شجرة اللبلاب بالظبط وتغطي أي جوانب تانية كانت ظاهرة للناس قبل كده.
-وده اللي حصل معاكي؟
-لأ!
"استفزازها له زاده إصرارًا، لابد أن يصل إليها، إلى ما تخبئه، إلى عقدتها وما يدور برأسها والتي تنجح عيناها تمامًا أن تواريه ولا تعبر عنه أبدًا"
-هو انتي كده مع الناس كلها، معندكيش صديق قريب؟
-عندي.
-برضه بتتصرفي معاه كده؟
-هو انت صديقي؟
-لأ. بس حابب أعرف أنتي بتقولي أسرارك أو اللي جواكي لحد قريب ولا لأ.
-عندي صديق قريب ومعنديش مشكلة وبفضفض عادي، عندي حتى اكتر من صديق.
أطلق ضحكة ساخرة ثم أخرج سيجارة ووضعها في فمه وأشعلها. انعقد حاجباها وتقلصت بسمتها.
-ايه مستغربة؟ ما هو برضه مفيش حاجة في جلساتنا دي طبيعية، وانتي بتحسسيني بالعجز، مش عارف أوصل معاكي لحاجة وانا في الآخر بشر يعني.
تشابك ذراعيها ونظرت في عينيه مباشرة دون أن تزيغ أبدًا وهو بادلها ذات النظرات. معركة صامتة باردة حادة دارت بينهما ولم يكن أي منهما أقل قوة وخطورة بالنسبة إلى خصمه الآخر.
-قوليلي أنتي علاقتك بمامتك كويسة؟
-كانت كويسة الحمد لله.
-كانت؟! اه ليه بقى كانت؟
-عشان ماتت من سنين.
-اممم طيب باباكي مكنش عنيف معاكي، مكنش بيضربك أو يتعصب عليكي ، مكنش بيحبط فيكي أو يقيدك أو يقلل منك أو..يتحرش بيكي مثلًا.
-أبويا راجل حنين وطول الوقت بيشجعني، عمره ما اتعصب عليا إلا لو كان في سبب وأب طبيعي مش منحرف.
إنتفض من مكانه متوترًا ويداه ترتعشان. وقال بنبرة عصبية:
-لأ ما هو كده مش معقول، أنتي مش مخلياني أعرف أساعدك، ساعديني عشان أساعدك!
-عايز تساعدني ازاي؟
-عايز أعالجك.
-تعالجني من ايه؟
-يوووووه.
-قول لي ايه اللي ممكن يخلي الواحد يتخطى الحدود
-حدود ايه؟
-حدود المنطق والمعقول، يخلق مثلًا عالم موازي، يبدل الشخصيات ويلعب بيهم ويستمتع بالانغماس في العالم ده وميبقاش عايز يرجع.
ابتسم وقد بدا راضيًا للمرة الأولى منذ بداية الجلسة، حول نظره إليها بعد أن استغرق نحو النافذة للثواني الأخيرة
-ايوه كده، هو ده الخيط! انتي خطيتي على الحدود وتعديتيها.
-رد على السؤال.
-احنا أعمارنا مش قصيرة، قصدي في منا ، ف وسطنا ناس أعمارهم مش قصيرة، عاشوا كتير أوي وإحنا منعرفش.
-يعني ايه؟
-يعني السنين اللي ماشيين عليها غلط، التقويم وحساب الزمن غلط غلط، اللي عنده 30 سنة في الحقيقة ممكن يكون عنده 130، ربنا بيحط جوه السنين سنين مخفية، حساباتنا غلط.
-يعني كل العلما اللي مروا علينا ،بتوع الفيزيا والفلك من وقت الخليقة كانوا غلط، حساباتهم غلط؟!
-تعرفي ايه العنصر اللي محسبهووش؟ الخبرات والتجارب، التجربة الوحدة ممكن تكبر الواحد عشر سنين بحالهم، ويمكن أكتر، وأظن اني قربت من حالتك أوي، قربت أوصل للي جواكي وهخليكي تتكلمي.
-بس انا معنديش مشكلة.
تحرك بعصبية حتى وصل أمامها واتسعت عيناه وغزتهما الحمرة وقال صارخًا:
-امال ايه اللي جابِك هنا؟!
-انا هنا عشان أعالجك يا نيروز!
-تعالجيني؟!
زاغت عيناه وسرح، صمت برهه ثم حملق في ركنٍ وهو يتذكر، لقد جلبه إلى هنا أهله وتلك هي الجلسة الخامسة له، وهو هنا بصفته مريضًا وتلك الجالسة أمامه هي الطبيبة النفسية وليس هو الطبيب كما يُهيأ إليه. لقد غزته تلك التخيلات منذ بداية الجلسات، دومًا يتخيل أنه هو الطبيب وأنها المريضة، هي من تخبأ عُقدها ومشاكلها خلف وجهها المتجهم الجامد بينما هو من سيفك تلك العقد ويحل مشاكلها العميقة المتشعبة الصعبة. تخطى حدود المنطق والمعقول، خلق عالم موازٍ، بدل الشخصيات ولعب بهم وحركهم كما يحلو له واستمتع بالانغماس في ذلك العالم ولم يشأ العودة، ثم أخيرًا خرج من عزلته التي دامت لدقيقة، رسم بسمة على وجهه وقال لها:
-يعني مش ناويه تتكلمي برده؟
"تمت"