لم يوقظه ضجيج العيال وأصواتهم التي فاقت صوت الحمير في قُبحها ولا أحاديث الجيران الصاخبة وخناقاتهم وأمورهم ( المُفترض أن تكون شخصية) حيث تلاصق الحجرة التي يقيم بها مع أهله باقي الحجرات الخشبية بل تلك الرائحة التي زحفت إلى نخاشيشه ، عفرة وتراب لا ينتهي. توقظه تلك الرائحة من نومه كل صباح وأحيانًا بضع مرات في الليل . وامه كما الرادار تلتقطه ما ان يفتح عينيه وكأنها هناك دومًا تراقبه وتترصد له وتنتظر أن يفتح عينيه.
لو ان المشهد كان ديجافوهًا لما تكرر بتلك المثالية كل مرة وهو لا يتعظ يقول تلك الجملة ثم...
-ياض يابن الصرمة، اياك فاكر نفسك من تنابلة السلطان ؟؟مش كفاية انت الوحيد اللي في التعليم بروح أمك وانا وابوك بنشقى عشان تخلص السنة الكبيسة دي وتتنيل تدخل أي جامعة، في حد من المقاطيع اللي بتتسرمح معاهم كملوا علام؟!!
ينتفض من مكانه ويتوجه إلى الخارج في الحال دون أن يكلف خاطره ويفكر في غسل وجهه وحتى إذا اهتم فلم يكن ليجد الماء بأية حال فهو يكون مقطوعًا عادة في هذا الوقت من اليوم وفي هذه الحالة فهو مقطوعًا منذ يومين كاملين.
اشترى "عبد البر" خمسة أرغفة من "ابو شلن" وفي طريق العودة ارتطم بصديقه "صادق" الذي حاول اثناءه عن الذهاب الى المدرسة ذلك اليوم لكن باءت محاولاته بالفشل.
رمى "عبد البر" رغيفًا لكل من كان على الطاولة ، امه واخواته الثلاثة وصار يأكل رغيفه سريعًا حتى يستعد لارتداء الزي المدرسي لكنه بعد أن انتهى وجد نفسه مازال جائعًا فانتشل ما تبقى من رغيف أخيه الأصغر وهو يهم بأكله وبعد أن انهاه ظلت العصافير تزقزق في معدته اللعينة التي تشبه القمل في نهمها ، لا تشبع ابدًا!
وأخيرًا انتبه أن ابيه لم يكن متواجدًا منذ أن استيقظ فسأل عنه وجاوبته والدته أنه لم يظهر منذ البارحة وأنه قضى ليلته في "المصنع" وبالمصنع تعني "تثبيت الناس وسرق حاجياتهم" . مازالت حتى ذلك اليوم تكذب عليه وعلى اخوته وهو نضج وأدرك بحقيقة عمل والده وانها تكذب عليه وهي أدركت بأنه كذب عندما ادعى تصديقها فيما تكذب عليه. كم من مرات وجد أجهزة محمول غريبة بالمنزل ومحافظ وورق وحقائب وهو بدوره أخذ نصيبًا كبيرًا منهم وبينما علم والده بسرقته له لم يتجرأ ويواجهه أو يعنفه وهكذا استمرت دائرة اللوع.
خرج على عجلة يجري حتى يلحق الأتوبيس المتوجه إلى السيدة زينب لكن أوقفته "صباح" . وقفت أمامه دون كلمات:
- هكون رايح فين؟!! المدرسة.
-غير لما توعدني اننا نتقابل بعد ما ترجع مالمدرسة.
ردت عليه بالثبات والحملقة والبرود اللامتناهي وما كان منه غير أن وافق حتى تتحرك ويتمكن من اللحاق بالأتوبيس.
لم تكن "صباح" حبيبته ولم يحمل أي منهما نوعية المشاعر الرومانسية للآخر لكنهما تربيا سويًا واعتادا قضاء الوقت معًا وأحبا التواجد بالقرب من بعضهما البعض على الأقل حتى وقت قريب فقد تحول "عبد البر" ولم يعد يطيق الجلوس معها بعسكها التي مازالت متمسكة به وبالصداقة الغريبة التي تجمع بينهما. في الواقع لم يكن تحول "عبد البر" لشخص "صباح" بل أصابه القرف من كل شخص سكن منطقته، المخروبة كما أسماها وكل شيئ تعلق بها. لم يعد يحتمل ضجيجها وعفنها وساكنيها والغرفة الخشبية التي يعيش بها ورائحتها والعفرة التي تلاحق نخاشيشه كل الوقت . المخروبة صارت كومة من الزبالة المادية والبشرية ولن ينقذها سوى قنبلة نووية أو على أقل تقدير كيماوية!
" اخــتلاف النهـار والليــل ينــسى ** اذكــرا لي الــصبا وأيـام أنــسي
وصــفا لـي مـلاوة مـن شبــاب ** صـورت من تـصورات ومـــس
عصفت كالصَّبا اللعـوب ومــرت ** ســــنة حلــــوة ولـــــذة خلــــس
وسلا مصر هل سلا القلب عنـها ** أو أســا جرحـه الزمـان المؤسى
كلمـــا مــرت الليـــالي عليـــه ** رق ، والعهــد في الليــالي تقسى
مــستطار إذا البــــواخر رـنــت ** أول الليــل أو عــوت بعـد جـرس
راهـب في الـضلوع للـسفن فطـن ** كلمــــا ثـــرن شـــاعهن بــــنقس"
ما هذا الهراء؟! حنين؟؟؟ حنين إلى ماذا؟ وكيف يكون الحنين لمكان مارس فيك اسوأ أنواع التحرش النفسي، ايصيبك الحنين لمكان لمجرد كونه وطنك وإن كان وطنك هو وطن الفقر والبؤس؟ اتحن له؟؟ هكذا رأى "عبد البر" الشعر الذي كتبه أحمد شوقي وبينما كان يسمع الأبيات من المعلم ظلت صورة المخروبة تبلطج على مخيلته وتعكنن صفوه لكنه قاوم حتى يستطيع الإستفادة على أكبر قدر ممكن من الشرح. لم يكن "عبد البر" ليدع شيئًا يقف في طريقه وهدفه لتحقيق أعلى النتائج حتى يتمكن من دخول كلية الإقتصاد والعلوم السياسية ليس حبًا في العلم أو في الكلية ذاتها بل رغبة شرهة للوصول إلى أرقى الأماكن ومعاشرة "الناس اللي فوق" والتواجد بينهم والتحدث معهم كما لو كان واحدًا منهم ليصعد بعدها فوقهم درجات ويدهسهم بمقدمة البُلغَة.
عاد يترنح من الإرهاق ، يمشي في الزقاق في خطوط معوجة حتى تراءت له. أطلق في سريرته شتيمة قبيحة،من علو صداها في نفسه، اعتقد أنها خرجت عن سريرته وتجسمت وأصبحت مسموعة.
-"احنا مش اتواعدنا نتقابل؟"
-"هتاخذيني على فين يا صباح؟"
ضحكت له ضحكتها الخبيثة المعهودة ثم أمسك يده وجرته دون أن ترد عليه.
ذهبا إلى احدى المباني المتهالكة وصعدا إلى السطح ثم وقفت "صباح" تتأمل ما ظهر أمامها.
مر وقتًا على هذا، تلك العادة، الصعود إلى أحد الأبنية ومراقبة القلعة.
"جايباني هنا ليه؟"
نظرت اليه في استنكار ثم بدأت تتمتم:
"بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بانشاء هذه القلعة الباهرة، المجاورة لمحروسة القاهرة التي جمعت نفعاً وتحسيناً وسعة علي من ألتجأ إلي ظل ملكه وتحصيناً...."
" مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، أبو المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين في نظر أخيه وولي عهده، الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد خليل أمير المؤمنين، علي يد أمير مملكته، ومعين دولته، قراقوش ابن عبد الله الملكي الناصري في سنة تسع وسبعين وخمسمائه...."
لمحت بسمة خفيفة على وجهه وان دامت لحظات فهي تقطع برؤيتها.
-"انت اللي حفظتني الكلمتين دول"
-"انتي فاهمة حاجة منهم يا صباح!"
بعد أن استغرق في القلعة لدقيقة والشمس التي بدت وكأنها تنصب بها وتتحامي في أسوارها التفت اليها وتساءل دون أن ينطق عما وراء تلك النُزهة.
-"احنا مش أي عشوائيات، انت مدرك ده؟ احنا بنطل على ده، احنا أصالة"
-"عندك حق، احنا حالنا ازفت من باقي العشوائيات والحواري المعفنة! احنا ابئس لنفس السبب عشان احنا بنطل على ده، بنينا ورا العظمة مقلب زبالة، ورا التاريخ حاضر بشري متعفن، وسط الجنة المخروبة!"
نكست رأسها مستسلمة.
وجد "عبد البر" أن الدراما قد استحوذت على الأجواء فرأى أن يغير المسار وسأل:
-"ايه اخبار صاحبك الأخير؟"
-"طلع كذاب ومقشف، محلتوش حاجة!"
في السنين الأخيرة طورت "صباح" تلك العادة والتي أسمتها "شغل" وهي مرافقة الصبية والرجال الأيسر منها حالًا، لا تبيع جسدها انما تحاول إيقاعهم في حبها ثم تحاول "الخروج منهم بأي مصلحة" ولو في صورة عزائم ونُزهات.
"تعرف ليه بحبك وبرتاحلك انت بالذات يا عبد البر"
-"عشان انت مش بتحكم عليا، ولو عملت أي حاجة مش بتستعيبني، وبتسيبني اتكلم براحتى"
-"تعرفي انا ليه مش بحكم عليكي، عشان انا أوحش منك بكثير"
-"لو تعرفي انا ناوي على ايه وايه اللي بيجرى جوايا"
-"شكلك مش هتجيبها البر يا عبد البر!"
**********************
سرعان ما التقط "عبد البر" الخيط الذي يجب أن يتمسك به ويمشي وراءه . لاحظ كيف أن "صادق" بدأ ينتعش عندما لاحظه "يشخشخ" جيبه ويتباهى بانتعاش حاله، علم أنه وجد سكة وصار يلتصق به وبرغم حال "صادق" الذي تغير لم تزل "صباح" ممتنعة عنه ولم تطقه رغم محاولاته الدؤوبة للإيقاع بها ومحاولات "عبد البر" لإقناعها به.
ومع السنين تغير حال "صادق" تمامًا بعد أن صار من أشهر البلطجية الذين يلجأ اليهم أصحاب الأعمال والسياسيون للقيام بأقذر المهمات ولم ينس صديقه المُفضل "عبد البر" فبعد أن تخرج مباشرة استطاع أن يُهيأ له وظيفة في إحدى الشركات المُحترمة بفضل علاقاته. كان هذا قبل أن يقرر الانتقال من "المخروبة" واتخاذ شقة على النيل في أشهر المباني وأغلاها.
لكن "عبد البر" لم يَقنع بمركزه وان كان جيدًا، أراد أن يقتدي بصديقه. وهكذا شيئًا فشيئًا بدأ يتقرب إلى معارف "صادق" ومنهم إلى معارف المعارف حتى أصبح يرافق بعض الأسماء اللامعة وأحطها وأخيرًا تحقق له ما كان يبتغيه منذ البداية، فرصة لإذلال الناس وسرقتهم!
فقد تمكن من التعاون مع بضعة أشخاص والقيام بعمليات نصب موسعة ببيع أراضي ملك للدولة على أنها ملك لشركتهم وهكذا بدأت ناره تهدأ أخيرًا وهو يعلم بالقهر الذي تركه بنفوس هؤلاء، من يملكون بعض الأموال، من يعيشون في بيوتٍ آدمية ولا تخونهم أسقفهم بالوقوع على رؤوسهم في عز البرد.
حتى صار يومًا "عبد البر" من أشهر الأسماء في عالم "الأعمال" بعد عملياته العديدة والتي كون بها ثروته ومن ثم دخل في مشروعات عدة بفضل تلك الثروة والعلاقات وصعد إلى قمة الهرم.
لم يهتز "عبد البر" بالهوجة الأخيرة من التفجيرات وظن بسخافة من يعتقد بأنها تستهدف أشخاصًا بعينها، سياسيون، رجال أعمال، أصحاب الأموال، من يملكون مفاتيح البلد بمعنى أصح، فالتفجيرات عشوائية، ولطالما كانت عشوائية.
كان ذلك حتى تلك الليلة عندما كان يتعشى ببرج القاهرة مع صديقة له وإذا بذلك الضابط يقترب منه في هلع ويعلمه بوجود قنبلة موقوتة وبأنهم في صدد إخلاء البرج!
لم ينظر حتى إلى تلك التي كانت تتعشى معه قام على الفور وفي أقل من دقائق كان قد ترك المبنى، التفت خلفه بعد أن سمع صوت انفجار وصراخ! كان هو، هو المُستهدف، تمامًا كما سمع ولم تكن من شأن قوة أن تحميه!
إلى أين قد يذهب، لا يوجد مكان للهرب فالساحة مكشوفة، ثم تذكر، المخروبة! المخروبة هي أكثر الأماكن أمنًا في ذلك الوقت، لا يعلم أحد بأنها موطنه الأصلي، ولا يستهدفها أي شخص أو جهة، من بؤسها لا يطمع بها أحد، حمدًا لله على بؤسها!
توجه "عبد البر" على الفور إلى المخروبة تاركًا كل شيئ وراءه فياروح ما بعدك روح، وعلى نور القمرالذي زين الليل الكحلي رأى شخصًا ميزه، "صادق"!
سأله عما رماه إلى هنا فأخبره أن اصدقائه قد انقلبوا عليه وكشفوا عن بعض من أعماله وأنه الآن أصبح ملاحقًا من السلطات ثم سمع الاثنان خطوات تقترب حتى وقفت عندهما، كانت لامرأة ، تغيرت ملامحها قليلًا وانما بالتأكيد كانت هي،"صباح"...
حكت لهما كيف عادت إلى المخروبة منذ سنوات بعد أن كانت خرجت منها حيث وأخيرًا تمكنت من خطف قلب رجل ميسور وعندما حصلت على المال الذي أرادته وأكثر انفقته جميعًا على تلك الأرض التي باعتها لها شركة ما ثم تبين ملكيتها للدولة وبذلك عادت بخفا حنين إلى تلك البائسة التي تحتوي دون اسئلة، المخروبة...