كان بابها الكبير مُشرعا للعامة والضعفاء وعابري السبيل، وكانت تأنس بهم جميعهم.. تجبر كسورهم وتداوي جروحهم وتهدهد آلامهم وترشد حيرتهم وتمهد طرقاتهم.. وتطعم جوعهم جسدا وروحا..
أما خلصاؤها فكانوا منثورين وسط أولئك العامة.. ينهلون من عطايا العامة، ويفرحون كما يفرح العامة، ويحلمون كما يحلم العامة.. لكنها كانت تصطفيهم لذاتها بوصل فريد من روحها.. فتمنحهم النظرة التي لا يراها العامة، واللمسة التي لا يحسها العامة، والبسمة التي لا يهنأ بها العامة..
وكانت تمنحهم المحبة النادرة.. الهادرة.
الأصفياء لم يكونوا يعلمون بأنهم من المصطفين إلا بالحدس الشفيف.. إذ كانوا يتلقون عطايا الخواص ويهنئون بمِنَحهم، وهم وسط العامة الغرباء.
كانت هذه لعبتها الأثيرة إذ تصطفي من تريد وهي ترعى كل مُريد.
كما كانت إرادتها سيدة المشهد دوما، إذ كم توهم عادي أنه مصطفى فأعلمته موقعه، وكم اغتر مصطفى باصطفائه فأنزلته منازل العاديين..
كان المنح منحها والمنع منعها، بعدما وهبت وجهها المبسوط بالابتسام واحة لكل الضائعين..
فهل ظلمت؟ هل خدعت؟ هل تلاعبت؟
لا.. كانت تحكم فيما تملك، لتكشف أطماع القلوب وأوهام النفوس وخدع العقول..
كانت تحكم فيما تملك، لتحمي ما تبقى من وجهها المبسوط وقلبها المشطور وروحها المبتورة من سابقين أمِنتهم فآذوها وآوتهم فاستباحوها..
كانت تحكم فيما تملك، وهي لم تملك إلا أسطورة الغموض الطيب وبعض أدوات السحر القديم.. وبقية حب لم تصله -رغم بطشها الشديد- يد الأشرار البائدين..
كانوا هؤلاء -الغموض والسحر والحب- وسيلة بقائها على مسافة آمنة من جميع العابرين.. الصادقين منهم، والخائنين.