يمنحنا العمر فرصة عظيمة في مطلع الشباب.. ذلك الوقت الذهبي الذي ننفض فيه عباءة الطفولة ونلج باب النضج.. هذا الولوج لا يكون في ساعة ولا يوم، بل يستغرق سنوات.. نسميها المراهقة.. تنشط في كيان الإنسان منا قدرات كانت كامنة، وتغييرات متوقعة لكنها عارمة الأثر.
في هذا العمر الثمين تسيطر على الفرد فكرة عظيمة، أن كل شيئ يجب أن يكون مثاليا.. لا يعجبه اختلال العالم حوله، ولا تلون الوجوه وتغير النفوس.. ولأن أدواته مازالت حديثة حادة، تجده يصطدم بهذا العالم صدامات عديدة.. وتجد العالم ينفر منه ويسعى لتهذيبه، ويسميه بالمنفلت العاصي البعيد.. لو علم الأهل ما في نفوس أبنائهم من جمال على مشارف الشباب لاتخذوهم أصدقاء بل وحكماء.. لو اتسع صدر العالم لأفكار شبابه لتغير وجه العالم للأفضل كل صباح.. في هذا الوقت الذهبي حينما يبدأ الوعي الناضج في التجلي.. وتظهر للفرد أفهام جديدة بفعل ما نضج من مخه وما اتسع من عقله، يعيد تشكيل رؤيته للدنيا، ويعيد تقييم كل شيء حتى نفسه.. ويكون العقل قويا بما يكفي ليرصد عيوب صاحبه ومشكلاته، وتكون النفس عفية بما يكفي لتعيد تشكيل كيان صاحبها، فيصلح عيوبه ويعالج انشقاقاته.
لدي كل منا منحة ربانية جليلة هي "الاستشفاء الذاتي" وهي ممتدة بامتداد العمر.. تظهر بدنيا في أمور مثل التئام الجروح وتحسن الآلام بمرور الوقت.. لكنها تظهر أعظم ما تظهر في وعي الإنسان منا بعيوبه وسعيه لإصلاحها، حتى لترى مريض قلق يعي بالاطلاع والتأمل في ذاته أنه مريض قلق.. فيسعي لعلاج قلقه.. يفهم بواعثه ويحاول ضبط أسبابه.. ويستعين بأهل الاختصاص إن لزم الأمر.. وكثيرا ما نجح مستبصر في مداواة ما لم ينجح في مداواته طبيب.. ذلك أنها نفسه هو.. هو من يعرفها ويصفها لطبيبه.. وما الطبيب إلا مستمع منصت متعاطف.. إن حجبت عنه أمرا كان علاجه قاصرا بحكم ما احتجب عنه من أسباب.. وقِس على ذلك آلام وأوجاع كثر.. حتى لترى مضطربا من أثر سوء معاملة في الطفولة يسعى جاهدا ليجنب أخاه الأصغر تجرع نفس الإساءة واستشعار ذات الآلام..
الاستشفاء الذاتي أحد أعظم لمحاتنا الإنسانية، وأحد أنقى تجليات الخير في كياناتنا.
فكم من مريض لم يجد طبيبا فكان هو طبيب نفسه..
وكم من طبيب لم يدرك علة زائره فهداه زائره مفاتيح علته، فأعانه على علاجه.
فينا لمحة من عظمة من خلقنا
فينا نطفة من نور السماء
فينا بذور الداء وفينا سر الدواء.
راقية جلال الدويك
عن مشاهدات مهنية وتأملات إنسانية