(زمايلكوا وصلوا)
وصلوا محملين بكل مفردات العار فى التراث المصرى، ما بين لبس الطرح حتى ما هو أعتى. وصلوا بعد أن عرفوا أنها لم تكن تظاهرة عسكريه ، الغريب هو كان غياب المعلومات التام عن مقاتلى الداخل. ماذا حدث تحديدا؟ الأعين تعرف وترى و لكنها تعجز عن التحليل أو ربما ترفض التصديق. لم يذهب أبى إلى الجبهه فى 67 و ظل هنا فى القاهرة تمهيدا لإبتعاثه للخارج (بعثه ألغيت نتيجه الحرب).
عادوا ومعهم أشلاء من أنفسهم وأشلاء من الحقيقة، حجم المهانة الذى كان باديا على الوجوه بدأ فى سرد مفردات الكارثة ثم أنضمت له الألسن.
-( ايه؟؟ يعنى خلاص ضربوا أبو عجيله و دخلوا سينا؟؟)
-( عدوا الممرات؟)
_(هو الطيران معملش غطا على الإنسحاب ليه؟؟)
_(هو أنتوا انسحبتوا أزاى؟)
_(انتوا بتتكلموا جد؟؟!!)
لم يكن هذا حوارا لرجلين فى الشارع، كان حوار بين مقاتلى جيش القى بهم فى صحراء الوهم. لم يعرف من فى سيناء أن طيرانه قد سحق تماما. لم يعرف من فى الداخل أن سيناء سقطت تماما.
آلاف الأسئله جثمت على الصدور (يعنى خلاص!!) ..حتى خرج لهم عبد الناصر..ليتنحى..
(فها أنا على التراب سائلٌ دمي
وهو ظمئُ .. يطلب المزيدا )
(أيه دا بجد!! حضرتك الدفعه 50؟؟)
يتبعها حوار يتخلله بضعه أسماء يترحم المتحدث على بعضهم أو يتفاخر بسرور انه يعرفه. الدفعه 50 حربيه دفعه أبى. سر شهرة دفعته ليست بطولات إستثنائيه مثلا. دفعه (نادرة)، دفعة ألقيت كحطب على مدفئه فتآكلت عن آخرها. صبيه صغار تخرجوا توا من الكلية الحربية القى بهم إلى صحراء دون خطة ، دون تدريب، دون أى شىء.
كانوا الأحدث و الأصغر و اول من ألتهمتهم نار العار. كثيرا ما سمعتها عند أى تعارف بين والدى و زملائه الذى يبدأ عاده بسؤال عن السلاح و دفعه التخرج..الدفعه 50 حربيه معروفه بكثافه شهدائها وقله من بقى منها بعد النكسه.
"انا إتعلمت فى الحربية بروتوكول أكتر ما أتعلمت أحارب، و لا كنا فى دماغ حد و لا كنا نهم حد". تعليم عتيق و قيادات متخلفه عن نظرائها عالميا بما لا يقل عن 30 عاما على الأقل.
.
تحكى أمى عن الداخل، لم يسلم بيت من إرتداء السواد، كل شارع به سرادق، كل مكان به مذهول أو مكلوم. خلت البلاد من أى مظهر للفرح، كانها لم تعرف الفرح يوما. السعادة وملامحها كانت خيانة. الهواء ثقيل..
و تحولت مصر إلى سرادق عزاء كبير.
(لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران !
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..
ولا احتمائي في سحائب الدخان ! )
-محتاجين حضرتك تشرب على الأقل أتنين لتلاته لتر ميه فى اليوم
- ينفع حاجه غير الميه؟
- مش فاهمه؟
-يعنى نعناع ينسون، أصل أنا مش بأشرب ميه.
- ؟؟؟ هو ينفع بس ليه
-كنت أسير فى 67، عذبونى بسبب الميه مش بأشربها من ساعتها، لازم لونها و طعمها يتغيروا.
هممت بسؤاله عن تفاصيل أكثر، لكن تقلصات عضلات وجهه الذى تذكر منعتنى.لم أجرؤ على استدعاء ذكرى منعته عن شرب الماء قرابة الخمسين عاما.
كل من عادوا كانوا أشلاء حتى الأحياء منهم، لم يبق من مصر سوى أشلاء و رماد..
من لم تقتله نيران العدو قتلته المسافه الطويله سيرا على الأقدام، الأسرى و ما أدراك ما حدث للأسرى. مات الأحياء آلاف المرات وهم مكتوفى الأيدى منكسين الروح.
"ملحقناش نعمل أى حاجه، و الله ما لحقنا نعمل حاجه"..
العجز قاهر الرجال..
(فثراك الحر تراب أبى
وسماك يزف صبا ولدى
بلدى أحببتك يابلدى)
رأس العش...إغراق المدمرة إيلات..
كان من الممكن الإستسلام طويلا لحاله الرماد، أعتقد أن عبقريه هذه البلد تكمن فى تلك اللحظه التى ترفض فيها الموت. قرار الحياة ما قبل النفس الأخير. كيف لملموا جراحهم ووقفوا؟
المعجزة لا تكمن فى الأحداث السرديه، السرد مكانه المراجع العسكرية. لكن فى هؤلاء الذين أدركوا خطأ القياده السياسيه الفادح فى حقهم قبل أى شىء..لكنهم عرفوا أين يقع الخط الفاصل الذى فشل كثير من جيلنا فى رؤيته. خطأ القاده لا يعنى التخلى عن الوطن..أحبوها وهى مهزومه و ذليله ..أحبوها و لهم أخوه فى معتقلات ناصر..ضحوا بأحلامهم و شبابهم من أجل وطن مكسور يحكمه ديكتاتور كلاسيكى ..
(الابيات من قصيدة البكاء بين يدى زرقاء اليمامة..أمل دنقل)