طَرقَتان.. ووجهٌ لم يُوشِ عن سرّه عَتَبَةَ البابِ يومًا، بعد أن حفِظَت ملامحه الدافئة، وأَلفَت صَمتَه،
أبوابٌ مُغلقة، وصَمتٌ وراءَ إنسانيةٍ غائبة… في حَيٍّ منسيٍّ، في منطقةٍ لا تعرفُ من الحياةِ سوى اسمِها،
لم يُعرَف صاحب يد الخير، وبقيَ سرُّ البابِ مجهولًا..! كيسُ قماشٍ أبيض، بهِ طعام، وقنينةُ ماء، وحليبٌ للصغارِ الثلاثةِ الذين تيتموا بعد أن اختطفتِ الحربُ أباهم، وأمٌّ صفعها الفقرُ، وآلفَتها قِلّةُ الحيلة،
خبزٌ، وجُبْن، وماءٌ يسدُّ حاجتَها، وحليبٌ يُطعِمُ عصافيرَ بطنِ الصغارِ الجِياع، ويَضمنُ لهم نومةً هادئة، كيسٌ صغيرٌ فيه ثلاثُ دَراهم.. لا تُغني، لكنها تَصونُ ضعفَ امرأةٍ أكَلَ الحُزنُ والفقرُ عافيتَها،
كانت تخشى أن تلتقيه.. لأنها لا تملكُ من كلماتِ العرفانِ ما يَفي بجميله،
لكنَّ مرضَ أحدِ الصغارِ أجبرها على الخروجِ لشراءِ دواء،
وفي عودتِها، التقت للمرّة الأولى بصاحبةِ السرّ…
امرأةٌ عجوزٌ بالكادِ تَتحرّك، تسكنُ في ثالثِ بيتٍ بالجهةِ المقابلة، توقّفت الأمُّ وقد احتبست دمعتُها عند عتبةِ اللقاء،
لم يكن بينهما كلام، فقط تبادلتا نظرةً ثقيلةً بالصمتِ والامتنان، انحنتِ العجوزُ كما تَنحني سنبلةٌ مُثقَلةٌ بالمطر، وربّتتْ على رأسِ الطفلِ المريض، ثم مضت ببطء.. كأنّها تُغلِقُ بابَ الحكايةِ بنفسها،
في الغد، لم يُطرَقِ الباب..
بل خرجَ الصغارُ للانتظار، رأَوها تأتي ببطء، وقد أثقلت الأعوام قدميها النحيلتين، تحملُ الكيسَ الأبيض، ولمّا اقتربت، التصقوا بها كما تلتصقُ الجذورُ بتربتِها،
مدّتْ يدَها المرتجفة، وربّتت على ظهورِهم برفق ..
وقالت: "ما كنتُ أُطعمكم.. كنتُ أُطعِمُ قلبي"
ثم أشارت إلى الحفيد، شابٍّ خلفها يحملُ أكياسًا بيضاء، وقالت وهي تَمسَحُ شعرَ أصغرِهم:
الخيرُ لا يغيب، وإن غاب وجهُه، يبقى صوتُهُ يطرُقُ الباب.