في فضاء الشعر، تتوهج الكلمات لا لأنها قيلت، بل لأنها استطاعت أن تنفصل عن قائلها، أن تتخطى الأسماء والرايات، وتصل إلى الذائقة كما تصل نسمةٌ خفيفة إلى صدرٍ ضاق عليه الهواء.
غالبًا ما تُحتفى الأبيات الجميلة بعد أن يغيب أصحابها، وكأن للموت قدرة سحرية على تنقية الأثر، وتخليصه من شوائب المقارنات والانتماءات. فالشاعر الحي، مهما بلغ جمال شعره، يبقى أسيرًا لعيونٍ تراقب، وآذانٍ تتحسس، وقلوبٍ تُقارن. لكن بعد الغياب، ينجو الشعر من صراعاته، ويُقدَّر لما فيه، لا لما كان حوله.
ليست الغيرة الشعرية حديثة، بل هي نار خفية في كل زمان، تأكل الاعتراف الصادق وتستبدله بمجاملات متوترة أو صمتٍ بارد.
ولهذا، لا تُمنح الأصوات الحية كامل نصيبها من التقدير، لأنها ببساطة... ما زالت حاضرة.
و"الحضور"، كما يبدو، عقبة في وجه الإنصاف.
في المقابل، هناك لحظة نادرة، تتجرد فيها القراءة من كل الخلفيات، لحظةٌ يخطف فيها بيتٌ شعري بصيرتك، فتذوب فيه كما يذوب العاشق في نظرةٍ عابرة. لا تسأل حينها: من قاله؟ ولا متى؟ بل تعيشه وكأنه كُتب لأجلك، في اللحظة التي احتجته فيها تمامًا.
تلك اللحظة هي جوهر الجمال، وهي المعيار الحقيقي لتذوق الشعر، بعيدًا عن عناوين الكتب وسير الكُتاب،
لحظةٌ لا تحتاج إلى قاعة نقاش، ولا إلى ختم أكاديمي، بل إلى قلبٍ مفتوح، وروحٍ حرة.
والشعر، حين يتحرر من قيد صاحبه، يصير ملكًا للجمال وحده.
لا يطلب إذنًا ليُدهشك، ولا ينتظر دعوة ليحلّ بك.
ولعل أعذب ما في الشعر، أنه لا يدّعي امتلاكك...
بل يُقيم فيك، إن أردت له أن يقيم.