لا شيء جديد.
الأشياء المعتادة الصغيرة.
الاستيقاظ مبكرًا جدًا لإيقاظ أطفالي للمدرسة.
أُعدّ الفطور، الشاي، القهوة، الملابس، أترك مالًا إضافيًا للدروس الخصوصية، أُنظّم من عليه الدور في حمل مفاتيح المنزل، وأُلقي عليهم الوصايا العشر.
ألهث لإعداد ملابسه وملابسي، تبرد القهوة فلا أشربها.
أتذكّر دوائي متأخرًا، آخذه على أي حال.
أمام الأسانسير أدعو ألا يسحبه قبلي الجيران القاطنون في السماء، يبقى عندهم للأبد.
يسحبونه قبلي.
أنزل السلالم.
أتعثّر في كراكيب جارتي العجوز، لا يمكنني الشكوى؛ أصنع المقاصة بين ركض أطفالي فوق رأسها وبين كراكيبها التي تتشبّث بملابسي كغريق.
كراكيب جارتي تغرق في ظلام السلم.
أمرّ ببائع الماء، أشتري زجاجة صغيرة وأدعو ألا أنساها كالعادة في حقيبتي.
تدعو معي كِليتي اليمنى المستسلمة لإهمالي، على وعدٍ بألمٍ لا يُحتمل بين حينٍ وآخر.
أشير إلى السائق، أركب بجواره، أحجز المقعدين.
أتجنّب زحام الكلام بين الركاب في الصباح وشجاراتهم حول من يجمع الأجرة للسائق.
فأقع في شرك الحياة الاجتماعية للسائقين؛ يلقون التحايا بالسبّ والأبواق، ويتسابقون على كل راكب في الطريق.
مضمار سباقٍ يتحوّل إليه الشارع الطويل الممتد بين بيتي وعملي، والجائزة راكبٌ زائد.
شارع طويل يمرّ بأماكن مختلفة أجملها الميناء.
أحسد من ينزلون أمام بابها يوميًا؛ يدخلون الجنة كل صباح.
أحاول تلاوة الأذكار أو ترويض مسبحتي، لكن صوت السائق ينتشلني من عالمي في كل مرة.
أفكّر في تأليف سلسلة حكايات عن حياة السائقين؛ سيضحك الناس وسيبكون أحيانًا.
أفكّر في الكتابة بألفاظهم، لكن مقصّ الأخلاق داخلي يعمل بجهد.
أقنعه بأنني أنقل الواقع، فيضحك ساخرًا ويتمتم: «قد وقع وانكسرت أقدامه فعلًا».
سيظنّ الناس أنني أفشي أسرارهم، قد يقرأ أحدهم ما كتبته عنه ويلاحقني بحافلته، ولن أعرفه أبدًا، فأنا وإن كنت أعرف أدقّ تفاصيل حياتهم، إلا أنني لا أعرف شكلهم أبدًا.
لم أنظر ولو مرة واحدة إلى السائق.
أفيق من أفكاري وأشير إليه كي يقف بجوار وجهتي.
يقف بريبة أمام مبنى يضمّ مباحث المرور.
سائق يكسر كل القواعد والإشارات ويسبّ المرور وأهله كل يوم، يجد نفسه واقفًا بين براثن بوابته.
أودّ طمأنته أنني لا أعمل معهم، لكنّي أتراجع، لعله يحفظ لسانه في رحلةٍ أخرى.
أنتظر الأسانسير، بطيء كالعادة لكنه يفي بالغرض.
تنقطع أنفاسي في صعود مائة سلّمة صباحًا.
المباني القديمة بناها من كانت صحتهم أفضل ومزاجهم أروَق.
أصل إلى الدور، أسير في طرقة طويلة مظلمة إلا من كشافاتٍ معطّل نصفها.
أراقبها تمرّ فوقي كأنني أستقلّ ترولي نحو غرفة العمليات التي زرتها أكثر من مرة.
أدخل بقدمي اليمنى، أستعيد آيات التحصين، ولا أفلت –كالعادة– من المكائد.
كل واحدٍ منهم يجلس تمامًا في موقعه، يُحكمون السيطرة على مداخل المقر ومخارجه، يوزّعون أنفسهم كي لا يفوتهم شيء.
والقاسم المشترك بينهم: أنهم لا يغيبون.
الأشرار لا يحصلون على إجازات، وكأن غيابهم يومًا يزعزع سلطانهم ويقصّر من أعمارهم.
أُلقي السلام على الطيبين فقط، وأستريح من تفاصيل ما قبل العمل على أقرب كرسي.
يلاحقني رجل عجوز يسألني عن شيء، أجيبه فيتركني إلى حيث أرشدته، ثم يقف هناك يراقبني ويسألني كل ثوانٍ عن الموظف الذي لم يصل بعد، يحاسبني بعينيه عن خطأ غيري.
العجائز يستيقظون مبكرًا، يلحقون اليوم من بدايته، أذكياء يعرفون قيمة ما تبقّى، وأنه قليل لا يجوز إضاعته في النوم.
أبدأ مهام عملي، أنشغل بشدّة، هاتفي لا يتوقف عن الصياح وكذلك المهام.
أسمع اسمي الذي لا أحب عشرات المرات.
يمكنني تغييره بسهولة، لكن أمي رحلت وهي تعرفني به.
ربما لو كانت هنا لساعدتني في اختيار غيره.
أو ربما تختار لي آخر حين أقابلها في الحياة الأخرى.
أشرُد كثيرًا بين الأسماء؛ لا أعرف ماذا أسمّي نفسي.
يلائمني اللقب أكثر.
"أستاذة" منتشر جدًا. أيام الجامعة أخبرني أحد العجائز في المكتبة العامة أن الأستاذية لا يستحقها أيّ أحد.
سأصدّقه، خاصة بعدما علمت أن أولاده يحملونه على الكرسي المدولب يوميًا ليصعد السلم الرخامي الكبير للمكتبة، بينما أنا أعافر وأنا في تمام صحتي لأحضر ندوة أسبوعية داخلها. يظن الناس أن كل الموظفات أساتذة شيء مقيت، أنتقي لنفسي لقب "دكتورة"، وأسعى جاهدةً لاستحقاقه.
أعود للمهام.
يشتعل رأسي فكرًا. أتلقى شكوى هذا وتلك، أساعد قدر ما أستطيع.
يكرهني الأشرار، فهم لا يحبون من يهدم ما بنوه من منازل الشر.
يحبسون الناس فيها ويجلدونهم كما يروق لهم، وإذا اشتكى أحدهم تنصّلوا من آثار الدماء العالقة في ملابسهم.
أسمع دعوة تطيب خاطري، أنتظر نتيجتها بشوق.
أفكّر في الغداء والطريق الذي سأسلكه.
الطريق إلى السوق يستغرق نصف ساعة، والعودة تزيدها نصفًا آخر.
سأصل إلى البيت في الرابعة إذا قررت ممارسة هوايتي الصغيرة في تنقية الخضار والفاكهة.
أفكر في البحث عن علاقة تنقية الخضار والفاكهة بتحسين المزاج.
أظنها فكرة الاختيار نفسها؛ تلك المساحة الصغيرة من الحرية تغمرني بالسعادة، لكنها موقوتة.
أختار أغلب الوقت التنازل عن سعادتي لشراء ساعةٍ زائدة، أو أوفّرها للمطبخ.
على الأطفال أن يأكلوا قبل موعد الدروس الخصوصية، كي يفهموا الدرس الذي يأكل معهم نصف راتبي.
أُعدّ الغداء بعد تفويض البائع تحت بيتي بتنقية الخضار.
لا أرضى أبدًا باختياراته، لكنها المتاحة.
أصرخ فيهم كي يأكلوا بسرعة ويلبسوا ثيابهم بسرعة.
يخلو البيت. ألمّ بقايا الطعام، أُصلّي بتعب.
أمرّ على غسالتي «عزيزة»، أحبها جدًا، تلك الصديقة الوفية.
ولعزيزة حكاية أخرى لن أحكيها اليوم، لكني سأخبركم بأنني تمنيت أن يُغنّي لها "العزبي" كما غنّى لـ"بهية"، فهي تستحق ذلك.
أتصفح هاتفي، أبتعد عن كل الأخبار المؤلمة، لا أقرأ الحوادث ولا أتابع "التريندات".
قد أشاهد فيديو لامرأة تخبز كعكة أو تصنع شوكولاتة دون كلام.
يصنعون تلك الفيديوهات على مهلٍ وبهدوء، شيئان أفتقدهما بشدة: المهل والهدوء.
أغُطّ في النوم، أستيقظ فزعةً على شجار أبنائي.
يساومني أحدهم على تنظيف حجرته مقابل اللعب بهاتفي، أوافق.
تُطاردني آلام الرأس والعضلات والمعدة وأشياء أخرى.
أفتح درج مكتبي الذي خصصته للدواء، أنتقي الشريط الذي سحبت منه سابقًا على أمل إنهائه.
يبدو منظره مضحكًا كطفلٍ فقد سنّه الأمامي.
أستمر في التفتيش، أسمع سيمفونية احتكاك الشرائط ببعضها، تهمس لي بأنني سأكون بخير.
أبتلع الأقراص وأنظر إلى حاسوبي يشكو التراب وخربشات "لي لي" قطتي التي لا يحلو لها الجلوس إلا فوقه، كعنكبوتٍ يعشّش في المكان المهجور.
أمسحه بكفّي وأعده بالزيارة القريبة، بأن أفتح الملفات المعلّقة منذ سنوات، والرواية التي أخشى نشرها، والكتب التي أهاب البدء فيها، والأبحاث التي أظنها ستغيّر الكثير كما فعل من قبلها.
أتذكر إذاعة تنفيذ أحد مقترحاتي في القنوات الرسمية دون أي إشارة لي.
أتذكر ابني الأكبر وهو يشير إلى التلفزيون قائلًا:
«ماما، مشروعك اتنفّذ!»
وحده يعرف أنه مشروعي، وكذلك من سرقوه.
تصيبني غصّة، أبلعها ببقية كوب الماء.
ينادي أحد أبنائي: «جعان!»
أبدأ في تجهيز العشاء، أنشر الغسيل، أجهّز ملابس اليوم التالي، وأترك الكيّ للصباح.
أرصّ فناجين القهوة بجوار الكنكة والسبرتاية استعدادًا لغدٍ جديد.
تمنحني السبرتاية قهوة لذيذة، لكن يهمّني أكثر أنها تسمح لي بمتابعة القهوة دون ركض بين المطبخ وباقي الغرف، حيث أضعها في الصالة.
يعود الأطفال للشجار.
أنقل حاجاتي إلى حقيبة يد أخرى تناسب ما سأرتديه في الغد.
لاحظت أنني أقوم بأغلب الأشياء التي تتعلق بالغد خلال اليوم.
تموء "لي لي"، تنام "عزيزة".
يطوف سمك الجولد حول الأوسكار، تتعلّق البلاك ستومك بقطعة خيار وترقص الباليه.
يعود الشجار، يصرخ "آيزك" العصفور راجيًا النوم.
(آيزك اسماه ابني على اسم شخصية في لعبة فيديو تعاني من مطاردة أمٍّ شريرة، عرفت ذلك مؤخرًا بالصدفة.)
أتفاوض من أجل الهدوء، أخسر المفاوضات، أنام بعدما أغلق المصابيح.
يتشاجرون في الظلام.
أستلقي على السرير، أنظر في هاتفي، أطمئن على المنبّه.
أفتح التليجرام، أحمّل صورًا لحقائب تعجبني تمهيدًا لشرائها.
تريحني الفكرة حتى ولو لم أنفّذها.
هل أخبرتكم أنني أحبّ الحقائب؟
وخاصة الكبيرة منها.