أَتصفّح تاريخنا الثقافي، فيمسّني الفخرُ المُطعَّمُ بالحسرة: أين كُنّا؟ وكيف صِرْنا؟
أين اختفى ذاك الزَّخمُ الذي كان يؤثّر في المجتمع بكل مجالاته؟
أين راحت السينما التي تُشخّصُ المرضَ وتعرضُ العلاجَ في جرعةٍ من الألم والأمل والمتعة في آنٍ واحد؟
لم يكن فيلم "جعلوني مجرمًا" أو "أريدُ حلاً" من إنتاج هوليوود، إنما إنتاجٌ وإخراجٌ وكتابةٌ وصناعةٌ مصريةٌ مئة بالمئة.
أين السجالاتُ الأدبية بين الأدباء العظام التي كانت تُربّي جيلًا لا يزال يَحبو في عالم الأدب (وأنا منهم)؟
أين المناظراتُ والاختلافاتُ التي كانت تدلّ على الحياة، وتُؤكّد حكمةَ الخالق في اختلافنا حتى نتعارف؟
كانت الأجيالُ العظيمة من الأدباء لا يملكون من وسائل التواصل ما نملك، اللهم إلا جلسةً في مقهى أو مكالمةً تليفونية، يُفترض ألا تجد صاحبها وقت الاتصال، لكنّهم حرّكوا، وصنعوا، وبنوا ما لا نقدر اليوم على زعزعةِ شبرٍ منه.
قال لي أحد الأساتذة (وفقًا لما يؤمن به): ما معناه أن صانعَ القرار دائمًا فقير، محتاج، ودورنا نحن—كعلماء، وأدباء، وفنانين، ومتخصصين—أن نعرض المشكلة ومعها العلاج.
نَكاد نعرف المشكلة في كلّ مجال، فهل جرّبنا العلاج؟ هل سعينا؟ هل ضحّينا من أجل الوصول إلى نتائج؟
أقرأ عن نضال الفنانين من أجل ما يؤمنون به، فأتعجّب:
عزيز عيد، ذلك المبدع، كان يقضي أيامه وشهوره مفلسًا، وقد يضطر أن يأكل مجّانًا على حساب أمه، والتي قد تَحنّ عليه بقرشين أو ثلاثة، دون أن يقبل إخراجَ روايةٍ مسرحيةٍ لا تليق بما يُؤمن.
لا أنكر أنّ هناك مبدعين يحاولون، لكنّ الواحد منهم كعازفٍ وحيدٍ في صحراء، لا يُطربُ من عزفه أحد.
يُشغلني سؤالٌ دائمٌ قبل الإقدام على أيّ عمل، سواء أدبي أو بحثي:
ماذا سأترك للأجيال القادمة؟
وعلى نطاق أوسع: ماذا سنترك نحن—هذا الجيل—للأجيال القادمة؟
أين السينما، والمسرح، والأدب، والفن التشكيلي، والصحافة، التي صنعت أجيالًا، وشكّلت وجدان أُمّة، وصنعت بحرًا هادرًا من التنوعات، ورسمت ملامح بلدٍ لا زلنا نفخر بدوره وريادته في مجال الإبداع بكل أنواعه؟
البحرُ إنْ كان ميتًا، لا يُثبت أبدًا جدارةَ الربّان في قيادة السفينة. أيّ سفينة؟ وأيّ ربّان؟