(النهايات الواقعية ليست بالضرورة نهايات سعيدة)
كان العرق يغمر أحمد رغم الطقس البارد، ينظر إلى مديره شاردا، لا يصدق أنه أصبح الآن فى حكم الموظف المرتشي..
كان جالسا فى حجرة المدير بعد أن جمعه مع المواطن الذى قدم له الرشوة..
جلس الثلاثة فى المكتب ، وقد أمر المدير سكرتيره بأن هناك اجتماع هام ولا يريد أى مقاطعة..
جلس المدير خلف مكتبه ، ينظر لأحمد الذى بدا منهارا تماما، والرجل أمامه يشعل سيجارته المستوردة فى هدوء..
المدير (فى هدوء): أحمد ، لقد استمعت لكلامك ولكن الواقعة كلها ضدك .لايوجد مايؤيدك .
أحمد : صدقنى ..لقد عرض علي رشوة حتى أتغاضى عن أوراق ناقصة للترخيص.
الرجل وهو ينفث دخان سيجارته: أية أوراق.لقد رأيت الآن أن كل أوراقى كاملة .
أحمد (بتساؤل): ماذا تريد بالضبط؟ ما المنفعة التى تعود إليك من اتهامى؟
صمت الرجل لحظة ، ونظر للمدير نظرة ذات مغزى.
المدير :
- أحمد ..أنت فى ورطة كبيرة ،ولكن عندى الحل للخروج منها.
هتف أحمد فى لهفة:
- أرجوك .
تراجع المدير للخلف ومد يده ليخرج ورقة كانت فى درج مكتبه ، ناولها لأحمد وهو يقول :
- هل رأيت تلك الورقة من قبل ؟
أحمد: هذه الورقة عرضت علي حتى أوقعها ولكنى رفضت ، هناك خطأ فى الأرقام ..تلك الأرض المذكورة مساحتها أكبر من الرقم الموجود فى الورقة.
المدير : بحكم وظيفتك وموقعك لابد من إمضائك للسماح بترخيص قطعة الأرض.
أحمد : أعلم ذلك .ولكن هناك خطأ بالفعل.
كان الرجل صامتا، لا يتحرك ، دخان سيجارته لف المكان وانساب داخل صدر أحمد الذى قال :
- لا أفهم ..ما العلاقة بين الورقة و....
صمت ..
بدأت الصورة تتضح أمامه..
ابتسم فى سخرية:
- أنت تريدني أن أمضى الورقة وبذلك كأن ما حدث لم يكن.
المدير :
- أنت شاب ذكي ..الورقة بها خانة إمضاء اللجنة..لم يتبق سواك .
صمت أحمد مرة أخرى..
الفخ أصبح واضحا..
ديون والده تطارده ، والدائن يطالبه برد الدين ..
الحاج هشام عرض عليه العمل معه بدافع الشفقة و بعدها انهالت عليه الإنذارات والقضايا بعد تحديه لمفتش الصحة ، وأوشك على إغلاق مطعمه..
أمينة ..الفتاة الوحيدة التى أحبها أصبح عبئا عليها ، وعلى والدها ..
كل تلك الأفكار ازدحمت فى رأسه ، فتراجع فى مقعده وجلس بثقة وثبات..
فى هدوء غريب طلب من الرجل سيجارة من سجائره المستوردة ..
ناول الرجل السيجارة لأحمد وهو ينظر إلى المدير باستغراب ..
أحمد : اشعلها لي.
أخرج الرجل قداحته ، وأشعل السيجارة لأحمد ..
أحمد (فى هدوء مريب) : كل ذلك لتهديدى حتى أمضى ورقة.
هز رأسه وأردف:
- وأنت يا سيادة المدير معه فى تلك المؤامرة.
المدير (بغضب) : أنا لا أسمح لك..الآن أنت أمام الجميع موظف مرتشى ، ومن الممكن أن ..
ضحك أحمد بصوت عال :
- الجميع !! من هم الجميع ؟ الذين قرروا صلاحية الورقة ووقعوا عليها ..
ثم تغيرت لهجته:
- وهل سأفعل ذلك مجانا ؟ هل فعلتم أنتم هذا لوجه الله؟
لأول مرة تحدث الرجل منذ دخوله حجرة المدير :
- كم تريد ؟
نظر له المدير فى دهشة ، فأكمل الرجل:
- سأعطيك نفس الرقم الذى أعطيته لباقى اللجنة.
نظر أحمد إليه لحظة ثم مد يده له:
- وأنا موافق ..
هز المدير رأسه وهو يتأمل أحمد ، لا يصدق هذا التحول المفاجىء الطارىء.
انتهى أحمد من سيجارته و ألقى ببقاياها على الأرض وهرسها بقدمه ثم قام ليغادر الحجرة ..
والتفت للرجل وهو يقول :
- أنا فى الانتظار ..
الرجل ( فى تأكيد ): تحت أمرك ..هذه المرة ..والمرات القادمة أيضا ..
كرر أحمد كلمته الأخيرة:
( والمرات القادمة أيضا)..
-------------
غشاوة قاتمة لا يرى د. حامد غيرها أمامه وهو يجلس أمام الضابط بداخل قسم الشرطة ..
يرتجف من الداخل وبرودة قاسية تغزو أطرافه..
ينظر للضابط فى خوف وينتظر كلمة أولى تخرج من فمه ..
بصوت مرتجف :
- لم أنا هنا ؟
تنهد الضابط بعمق ثم قال:
-د.حامد ، أنا فى موقف محرج بالفعل ، حضرتك طبيب معروف ومشهور وأنا أعرفك بصفة شخصية بحكم وجودى هنا .
خرج الكلام ضعيفا:
- ماذا حدث ؟ أنا طبيب محترم، ولابد التأكد من صحة أى شكوى ، ولابد ..
شعر بغصة فى حلقة فصمت..
سعل فناوله الضابط كوب من الماء ، رشف منه رشفة بسيطة وهو يحاول التحكم فى انفعالاته..
الضابط :
-الأمر حساس للغاية.
ضغط جرسا فدلف إلى المكتب عسكرى ..
أشار الضابط له وهو يقول:
- أدخلها..
ارتجف د.حامد وهو ينتظر مناظرة شرسة ، ويعد ردودا جاهزة لمن سيواجهها ..
سمع صوت بكاء مكتوم فنظر خلفه ورآها..
ابنته ( ندى)..
تبدو فى حالة رثة للغاية، عيونها منتفخة من أثر البكاء، وترتجف بشدة..
هتف د.حامد فى ذهول: ندى ..
ثم التفت إلى الضابط :
- ماذا حدث ؟ ماذا تفعل ابنتي هنا؟
الضابط (محاولا تهدئته): د.حامد ..لو سمحت . ابنتك تم القبض عليها فى سيارة مع رجل ..فى مكان منعزل وبحالة غير لائقة ..
انهار د.حامد على مقعده وعيناه تتسعان ويهتف:
ندى !!
بكت ابنته فى شدة وهى تقول:
- آسفة ..أول وآخر مرة ..
الضابط :
- د.حامد ، للأسف تم عمل محضر بالواقعة، لم أستطع فعل شىء ..لا أدرى لماذا فعلت ذلك؟ الرجل فى مثل عمرك تقريبا ومتزوج ، بماذا أقنعك؟ بماذا وعدك؟
قالها وهو يصرخ فى ندى ، ود.حامد لا يستطيع التحدث تماما ، كان يحاول فك ربطة العنق ويجاهد للحصول على الهواء..
أمسك كوب الماء وسكبه فوق رأسه التى تفور، ويرى دخانها يعم المكان ويحجب الرؤية..
ظلام تام بدأ يحيط به ، حتى أنه لم يسمع الضابط وهو يهتف فى قلق:
-د.حامد ...د.حامد ..
صرخت ابنته وهى تندفع نحوه وتهز جسده فى قوة :
- بابا ..
وضع الضابط يده على عنقه ، وقلبه ثم قال فى خفوت:
- إنا لله وإنا إليه راجعون ..لا حول ولا قوة إلا بالله .
جلست ندى على الأرض وظلت تردد فى جنون:
- لقد قتلته .. لقد قتلته..
--------------
هرولت أمينة خلف والدها الذى ارتمى على فراش معدنى يسحبه مجموعة من الممرضات نحو حجرة العمليات ..
تنهمر الدموع منها فى غزارة ..يدق قلبها فى توتر ..
ترى والدها فاقد الوعي، يحمله ممرضان ويضعانه على فراش حجرة العمليات ، ثم يغلق الباب ..
تقف خارجا تكاد تنهار من الخوف والقلق..
تتصل بأحمد ولكن لايرد على اتصالها..
كررت المحاولة عدة مرات ومامن مجيب..
(ماذا حدث؟)
تنظر لمصدر الصوت ، فترى الحاج عيسى يبدو على ملامحه قلق مصطنع ..
تنهدت فى ضيق :
- لا أعلم .كان يجلس فى غرفته يفكر فى حل لمشكلة البيت .
حرك الحاج عيسى رأسه :
-هل تقصدين إننى السبب؟
- لا أقصد شيئا .
قاطعتهما ممرضة :
- آنسة أمينة ، حضرتك ممكن تتوجهى لقسم الحسابات .
بدا عليها القلق وزاغت عيناها ،وهتفت :
- سأذهب فورا.
أسرعت إلى قسم الحسابات ، وخلفها الحاج عيسى يتابعها ويتأمل ضعفها فى لذة..
كان هناك موظف فى استقبالها ، أخبرها برقم خياله لم تتوقعه..
شعرت بأنها عاجزة عن التحرك ..
ثقل لسانها وهى تقول :
- سأحضر المبلغ غدا .
الموظف :
- الوالد الآن فى حجرة العمليات ينتظر الطبيب ، هل نكمل الأوراق ونبدأ فى إجراء العملية أم ...
قاطعه الحاج عيسى :
- أكمل ورقك والمبلغ موجود الآن ..
نظرت أمينة إليه فى شرود ..
- ولكن ..أنا لن أستطيع رد المبلغ الآن يا حاج عيسى.
ابتسم فى ثقة :
- ومن تكلم عن رد المبلغ ؟
اقترب منها وأردف:
- هذا جزء من مهرك يا أمينة ..
وتنهدت أمينة فى استسلام..
( النهاية)