سئمتُ من نعتي بهذهِ الصِفة، حيثُ أُنعَتُ بالمقطوعِ من شجرةٍ، ذلكَ لأني ولدتُ لأبٍ افتقدَ عائلتَه تباعًا، بعدَ أن رحلَ إلى مسقطِ رأسي، كي يتزوجَ من أمي التي كانت تُنعَتُ بالصفةِ نفسِها.
ذاتَ يومٍ؛ فقدتُ أبي وأمي في حادثٍ أليمٍ، حيثُ كنتُ الناجيَ من انقلابِ السيارةِ، لأكملَ الطريقَ وحدي، وتلازمني تلكَ الصفةُ القاسية.
كبرتُ؛ ثمَّ أجبرتني الحياةُ أن أتكِئَ علي نفسي، تركتُ الدراسةَ، ثمَّ عملتُ صبيًّا في ورشةِ سياراتٍ، شربتُ الحِرفةَ بعد شهورٍ طويلةٍ، وأفنيتُ وقتي في حرفتي حتى امتلكتُ ورشتي الخاصة.
في صباحِ يومٍ ما، طُرِقَ بابُ شقَّتي، تعجبتُ من ذلكَ الأمر، فلا أحدَ يقومُ بزيارتي، فمن الذي يطرقُ بابي قبل أن أذهب إلى ورشتي؟
لمَّا فتحتُ البابَ وجدتُ ساعيَ بريدٍ، ابتسمَ في وجهي بعد أن منحَني تحيَّةً روتينية، ثمَّ ناولَني ظرفًا صغيرًا مدوَّنًا عليه اسمي.
منحتُهُ شكرًا روتينيًّا أيضًا ثمَّ أغلقتُ البابَ، واستجبتُ إلى فضولي، فتحتُ الظرفَ وأخرجتُ الرسالةَ؛ فإذا بها رسالةٌ من عمَّتي!
"عزيزي وائل؛ لم يسبق لنا أن تلاقينا، رحمةُ اللهِ على أبيكَ وأمِكَ، أعرفُ ما حققتَه من نجاحٍ وأرغبُ في رؤيتِكَ، عمَّتُكَ انتصار"
أنا مقطوعٌ من شجرةٍ، أعرفُ تمامًا أن أبي فقدَ عائلتَه، حتى عمّتي، وقد كانت الأختَ الوحيدةَ لأبي، لقد أخبرني أبي أنها ماتت صعقًا بالكهرباء، قرأتُ الرسالةَ مرَّاتٍ عديدة، بينما أحاولُ استيعابَ الأمرِ، ثم وقعت عيناي على عنوانِ الراسل، فوجدتُهُ بيتَ جدّي القديم، والذي أخبرني أبي أنه مغلقٌ منذُ أن ماتت عمَّتي.
هل خدعني أبي ولم يخبرني أن لي عمَّةً على قيدِ الحياة؟
لم أستطع الإجابةَ، لكني قررتُ أن أغلقَ الورشةَ في ذلكَ اليوم، كان لابدَّ من أن أذهبَ إلى بيتِ جدّي الذي لم أزُره من قبل، وضعتُ الرسالةَ في جَيبي، ثمَّ غادرتُ الشقةَ، لم أنسَ وضعَ لافتةِ اعتذارٍ على بابِ ورشتي، ثمَّ ركبتُ سيارتي وسافرتُ إلى مسقطِ رأسِ أبي، انقضى اليومُ في الطريقِ، ولما وصلتُ إلى البيتِ كان الليلُ قد أقبلَ، رأيتُ البيتَ بحالةٍ طبيعيةٍ، لم يكُن قديمًا ومهجورًا كما أخبرني أبي، نزلتُ من سيارتي ودخلتُ من البوابةِ، طرقتُ بابَ الشقةِ الأولى، ولما انفتحَ، عرفتُ عمّتي التي كانت تشبهُ أبي، تمامًا كما عرفتني لأني أشبهه أيضًا.
عانقتني كثيرًا، ثمَّ أجلستني على أريكةٍ في الصالةِ، وبعدَ حديثٍ طويلٍ وكأنها وجدَت ضالَّتَها قالت:
_اعذرني يا وائل؛ فمن فرحتي نسيتُ أن أقدِّمَ لكَ مشروبًا، أظنُّ أنكَ تحبُّ الشايَ كأبيكَ رَحِمَهُ الله.
تركتني ثمَّ اتجهت إلى المطبخِ، ولم يمضِ وقتُ طويلٌ حتى انقطعت الكهرباء، ظننتُها ستخرجُ أو تتحدَّث إليَّ، لكنها أطالَت صمتَها، فاضطررتُ أن أنادي عليها:
_عمَّتي، عمَّتي.
كنتُ أُنادي في صحراءَ لا يسكنها أحد، أخرجتُ هاتفي من جَيبي ثمَّ أشعلتُ الكشافَ؛ فإذا بمعالمِ البيتِ قد تغيَّرت، لقد أصبحَ كلُّ شيء قديمًا ومُتهالِكًا فجأة، وها هي خيوطُ العنكبوتِ تتدلَّى من السَّقف، أفزعني ما حدثَ، لكني جررتُ قدميَّ إلى المطبخِ؛ فرأيته قديمًا شاغرًا ليسَ بهِ شيء، وكأنَّ عمَّتي قد تبخَّرت.
تراجعتُ إلى الوراءِ باحثًا عن البابِ، لم أكن أفكرُ في شيء سوى المغادرة، لكن شيئًا ما قد أمسكَ بقدميَّ؛ على الأرجحِ أنها يَدٌ؟ تجمَّدَتِ الدماءُ في عروقي؛ فصوَّبتُ ضوءَ الكشافِ نحوَ قدميَّ، فإذا بي أرى مفكِّرةً تكسوها الأتربة.
اقتربتُ من الأرضِ كي ألتقطَها، نفختُ من فوقِها الترابَ ثمَّ فتحتُها، لم أكُن بحاجةٍ لمن يخبرني أنها تخصُّ عمَّتي، فقد كانت تحتوي على تدويناتٍ للحظاتِ خوفِها وهي تعيشُ وحيدةً في البيت، تتحدثُ عن هواجسِها، فزَعِها، شعورِها بأنَّ هناكَ من يتربصُ بها، وأن هناكَ صوتًا يهمسُ في أذنِها دائمًا، يطلبُ منها أن تختارَ طريقةً لموتِها، ثمَّ وجدتُ في تدوينتِها الأخيرةِ أنها اختارت أن تنتحرَ صعقًا بالكهرباء!
في تلكَ اللحظةِ؛ شعرتُ بتلكَ اليدِ تطبقُ على قدميَّ مرةً أخرى، استطعتُ انتزاعَ قدميَّ وهرولتُ خارجَ البيتِ، كانت المفكرةُ لا تزالُ في يدي، والحقيقةُ أن الظلامَ لم يكن نتيحةً لانقطاعِ الكهرباءِ، بل لأن البيتَ كانَ مهجورًا ومُظلمًا، على عكسِ بيوتِ الشارع المُضيئة.
لا أعرفُ كيفَ رأيتُ البيتَ على غيرِ هيئته، ولا كيفَ قابلتُ عمَّتي التي أقرَّت في مفكِّرتها أنها انتحرت صعقًا بالكهرباء، وهذا مطابقٌ لما أخبرني بهِ أبي.
نظرتُ إلى البيتِ قبل أن أغادرَ، راودني سؤالٌ لم أجد إجابةً له، هل لا زالت روحُ عمتي تسكنُ البيتَ؟ أم يسكنه ذلكَ الشيء الذي دفعَ عمتي إلى الانتحارِ بهذهِ الطريقة؟
غادرتُ بسيارتي، لكني لمحتُ في مرآةِ السيارةِ شيئًا غريبًا، كان كيانًا لا ملامحَ له، تغطيه ملابسُ سوداء، وقد بدا وكأنه يقفُ في الهواء، ينظرُ إلى عمَّتي التي يرتجفُ جسدُها وهي تمسكُ بأسلاكِ الكهرباء العارية.
توقفتُ بالسيارةِ ونظرتُ خلفي، فإذا بي لم أجد شيئًا مما أوضحته المرآة، التي شعرتُ أنها كانت تجيبُ على سؤالي، لتخبرني أن الذي دفعَ عمّتي إلى فعلِ ذلكَ هو من يسكُنُ البيت.
نعم لم يخدعني أبي، لكنَّ عقلي كانَ شاردًا في شيء آخر، كيفَ استلمتُ هذهِ الرسالة؟
أخرجتُ الرسالةَ من جيبي، ولما أعدتُ قراءتها، وجدتُها كالتالي:
"الأسطى وائل، شكرًا على إصلاحِ عطلِ السيارة، أثبتَّ لي أنكَ الأمهرُ في هذه الحرفة، عزيز محمود".
كانت رسالةَ شكرٍ من صاحبِ سيارةٍ جاءَ من مدينةٍ مجاورةٍ للمدينةِ التي أسكنُها، ليصلحَ عطلًا لم ينجح أحدٌ في إصلاحه، لأجلِ ذلكَ أذكره جيدًا، لكن ذلكَ لا يهمُّني الآن، ما يهمُّني هو كيفَ بدت الرسالةُ في البداية أنها رسالةٌ من عمَّتي، وبعدَ تفكيرٍ طويلٍ أثناء القيادةِ، أدركتُ أنَّ لروحِ عمَّتي يدًا في ذلكَ الأمر؛ فربما أرادت أن تخبرني بحقيقةِ ما حدث.
**