-عارف يا كريم؛ الما ورائيات دي إدمان، دايمًا شَغفَك بيكون مفتوح ناحيتها حتى ولو في تشابه بين أحداث بعض الحكايات. فكرة الغموض نفسها بتزوّد الفضول وبتخليك عاوز تبحث وتعرف أكتر.
-وهي الأحلام المُفزعة اللي بشوفها دي بسبب إيه؟ ما هي بسبب الما ورائيات بتاعتك.
-مُش دايمًا الأحلام بتكون وَهم، في أحلام بتكون هي الحقيقة بس من منظور تاني. مُش كُل حاجة بتحصل وبنعرف سببها بنكون وصلنا للسبب الحقيقي، في أسباب بنوصل لَها بتكون استنتاجات مبنية على معطيات، ووارد جدًا إن المعطيات متكونش صح، سواء كلها أو بعضها، ودَه لوحده كفيل يوصَّلك لسبب وهمي، لكن قناعتك بتخليك فاكر إنه حقيقة.
-عاوز تقول إيه يا عصام؟
-عاوز أقول إن التفسيرات اللي بتشوفها في أحلامك، وبتكون عكس كل التفسيرات المطروحة في الواقع، بتكون هي الحقيقة بعينها، الأحلام مُش دايمًا وهم.
دي كانت دَردشة بيني وبين كريم وإحنا قاعدين في الكافيتيريا بنشرب قهوتنا قبل محاضرة الصُّبح، لمّا طلب منّي نقلل كلام عن الما ورائيات؛ عشان بتخليه يشوف أحلام بدأ يشوف إنها مزعجة.. في الوقت دَه سألت نفسي سؤال، لمَّا الحِلم بالنسبة له مُزعج؛ هيعمل إيه لو عرف بحقيقة الموقع وإنه بيكون موجود في مكان الأحداث بالفعل، سواء بشحمُه ولحمُه أو بجسده الأثيري، أعتقد ممكن يطُب ساكِت وهو قاعد، وده اللي خلَّى كلامي معاه يبقى مبني على المنطق، لأن المنطق هو الوحيد اللي بيقدر يغلب الهواجس والخوف اللي جوانا.
-أنت سرحان في إيه يا عصام؟
-مُش سرحان ولا حاجة يا صاحبي، إيه.. لسَّه عندك حاجة عاوز تقولها؟
-عندي سؤال.
-يا ترى إيه هوّ السؤال؟
-إيه أكتر حاجة بتحب تبحث عنها في الما ورائيات؟
-بالنسبة ليّا بحب قِصص المستشفيات المهجورة والمسكونة بالأشباح، بحِس إنها عالم لوحده وكل حكاية فيه بتكون دَسِمَة، لأن كل شبح بيكون وراه حكاية مَريض مات بطريقة غير طبيعية، فاكر حكاية المستشفى المهجورة؟
-وهي دي حكاية تتنسي؟ الدكتور المريض اللي كان بيسلخ جلد المرضى وبيرميه على الأرض وبيدوس فوقه بجزمته.
-كويس إنك فاكر، أنا بقى بحب أعرف تفاصيل الحكايات اللي زي دي، وأعرف إيه الأسباب اللي بتخلي الأمور توصل للمرحلة اللي وصلت لها.
انتهينا من المحاضرات ومن اليوم بحاله وكل واحد فينا رجع على بيته، وكالعادة انتهى بيّا الحال بإني دخلت أوضتي وفتحت اللاب توب، وقعدت في انتظار مغيب الشمس. كان جوايا رغبة أشوف تفاصيل حكاية من حكايات المستشفيات اللي بحبها، وكُنت واثق إن ده هيحصل، وبيني وبينكم، طوِّلت في الكلام عن المستشفيات مع كريم عشان الرحلة الجاية تشبع الفضول اللي جوايا ناحية شغفي بالمستشفيات المهجورة..
صوت أجنحة بتضرب الهوا في أماكن خالية، الصوت بيتردِّد بشدة، وده دليل على إن المكان فاضي ومهجور بالدرجة اللي تخليه يعمل صدى صوت لأي حاجة بتتحرَّك جواه، والشيء اللافت للانتباه؛ إني حسيت بإن الأجنحة اللي بتضرب الهوا عددها لا نهائي..
الصوت كالعادة كان خارج من اللاب توب. كنت قاعد مبحلق في شاشته اللي مفتوحة على صفحة الموقع ومكانش عليها أي حاجة غير اللون الأسود، بَس بعد شوية لقيتني ببحلق في الصفحة، لأني لمحت حاجة بتسيل من فوق الشاشة وبتنزل لتحت، كانوا أكتر من خط جايبين صفحة الموقع بالطول، حركة السائل كانت بطيئة، دليل على إنه لَزِج، وده معناه حاجة واحدة بس، وهي إن السائل ده دَ.م!
بمجرَّد ما استنتجت دَه لقيت نفسي واقف في بداية مَمر ضلمة، الدنيا كانت ليل وريحة الهوا رطوبة وكَمكَمَة، لدرجة إني حطيت إيدي على مناخيري عشان أحِد من بشاعة الريحة..
بدأت أتحرَّك، لكن لقيت نفسي هتزلحق مع أول خطوة، كان واضح جدًا إن الأرض فيها سائل لزج، زيت بقى أو أي سائل ممكن يكون له نفس الصفات دي، ودَه كان سبب إني مدّيت إيدي عشان أسنِد على حيطة المَمر اللي كانت قريّبة منّي، بَس لقيت إيدي حالها من حال رجلي، بمجرَّد ما لمست الحيطة اتزحلقت، أي نَعم ملمس الحيطة تَحت إيدي بيقول إنها رُخام، لكن دَه مُش سبب كافي إنه يخلّي إيدي تتزحلق، دَه السبب إن الحيطة كان عليها نفس السائل اللي تَحت رجلي.
لمَّا إيدي اتبلَّت؛ لقيتها فرصة عشان أتعرَّف على السائل ده، قرَّبتها من مناخيري وبدأت أختبر ريحة السائل، وساعتها اتأكدت من الإحساس اللي جوايا.. السائل عبارة عن دَ.م ريحته كريهة، بَس يا ترى إيه المكان دَه؟ وإيه السبب اللي يخلّي أرضيته وحيطانه غرقانين دَ.م بالطريقة دي؟!
كنت لسّه هفكَّر في إجابة لأسئلتي، لكن صوت الأجنحة اللي ظهر فجأة خلَّى دماغي تفصل، الصوت كان جاي من نهاية الممر وبيقرَّب، وفي ثواني الهوا كان بيخبط فيا من كل ناحية، والأجنحة كانت بتعدّي من حواليا، عشان أدرك بما لا يدع مجال للشك إن دي خفافيش ساكنة في المكان!
بمجرَّد ما الخفافيش بعدِت سمعت صرخة جنبي، الصوت مكانش غريب على ودني، دَه كان صوت كريم، بصيت ناحيته ولمحته في الضلمة بصعوبة، لكن قدرت أعرف إنه مخبّي وشُّه بإيده، وأوّل ما شُفته بالمنظر دَه قُلت له:
-مالك يابني؛ مخبّي وشك ليه؟
-بحلَم بخفافيش يا عصام، كانت فايتة من جنبنا دلوقت وحسيت إنها هتخبط فيا.
-خفافيش إيه بَس اللي هتخبط فيك يا كريم؛ الخفافيش مبتخبطش في حاجة وهي طايرة متخافش.
-بَس أنا طول عمري أسمع إن الخفاش بيمسك في وِش الواحد ومش بيطلع غير باللحم.
ضِحكت على سذاجته وقُلت له:
-مُش عيب عليك تبقى طول بعرض كده وتقول الكلام ده؟ خفافيش إيه اللي بتطلع باللحم؟.. طيّب أنا راضي ذمتك؛ عُمرك شُفت واحد الخُفاش واكل لحم وشه؟
-تقدر تقول لي أنت أنا ليه أحلم بخفافيش أصلًا؟.. لأ وأول ما الحِلم يبدأ ألاقي الخفافيش هاجمة عليا!
-والله اسأل نفسك، هي أحلامك ولا أحلامي؟
محبّتش أطوّل معاه في الكلام أكتر من كده، كنت عاوز أعرف إيه المكان دَه، وإيه حكاية الخفافيش والدَّ.م، وساعتها طلبت منُّه يتحرَّك معايا عشان نعرف إيه حكاية المكان..
بدأت أتحرَّك بحذر لأني عارف اللي فيها، لكن مع أول خطوة لكريم لقيته هيتزحلق، ولولا إنه تمالك نفسه كان زماني بشيله من الأرض، وفي اللحظة دي سألني:
-إيه اللي إحنا بندوس عليه في الأرض ده؟
-دَ.م يا كريم.
-والله! ببساطة كده بتقول دَ.م؟ محسسني إن البقال اللي جنبنا راشش شوية مَيَّه قدام المحل وإحنا بندوس فوقها عادي.
-بُص يا كريم، عشان أختصر عليك كتير، حسب معرفتي يعني إن وجود الدَّ.م طبيعي، لأن المكان فيه خفافيش، ووجود الخفافيش والدَّ.م في مكان واحد معناه إنها خفافيش مصاصة د.ماء، وإن بقايا الدَّ.م اللي بتشربه بتتنطر منها وهي رايحة جاية.
-شكل الخفافيش دي هتتسلّى علينا على فكرة.
-لأ يا صاحبي، دي مش بتمُص غير دَ.م الحيوانات والقوارض.
قَطع كلامنا شيء بيتحرَّك في الضلمة، وفي الثواني الأولى مقدرتش أحدد بالظبط إيه الشيء دَه، لأن لونه كان قريِّب من العتمة اللي مسيطرة على المكان.. كان شيء ضخم، وفي الغالب كان بيتحرَّك على جوز رجلين، ولو عيني صدقتني، أقدر أقول إني لمحت في راسه قرون طويلة، لكنه ظَهر واختفى في ثواني، كان ماشي بعَرض المَمر، وده معناه إنه كان خارج من باب أوضة ودخل في الأوضة اللي قدامها..
طلبت من كريم يتحرَّك لكن بحذر عشان الأرض والدَّ.م اللي فيها، وكان لازم أعمل دَه عشان الموقع يخلينا نشوف باقي الأحداث، وعلى عكس اللي توقعته، كريم طاوعني وبدأ يتحرَّك بدون ما يعترض..
بعد كام خطوة بدأنا نلمح أبواب أُوَض على يمين وشمال المَمر، لكن الضلمة منعتنا نعرف إيه محتوى كل أوضة، وعلى ما وصلنا نُص الممر، الشيء الضخم دَه ظَهر من تاني، كان راجع عكس الاتجاه اللي كان ماشي فيه، يعني كان راجع للأوضة اللي خارج منها.
معرفش ليه حسّيت إن دي إشارة لوجود سِر في المكان، أو إن الشيء دَه نفسه هو السر، عشان كده كملنا طريقنا؛ لحد ما وصلنا للمكان اللي ظهر فيه، وهناك لقينا نفسنا واقفين وفي أوضة على اليمين وأوضة على الشمال، بَس كالعادة، الضلمة منعتنا نشوف إيه اللي جوَّاهم!
بدون سابِق إنذار الوقت اتبدّل، النهار كان لسّه في بدايته، وبرغم إن الضلمة منكسرِتش بشكل كامل، لكن ملامح المكان ظهرت بالقَدر اللي يسمح لنا نعرف إحنا فين..
أول انطباع وصلني إننا في مستشفى، أصل الحيطان والأرض من رخام، ده غير أبواب الأُوَض اللي كان لها شَكل مميز، وحجم أكبر من أبواب فصول المدارس أو أي مؤسسة تانية، يعني مبدئيًا كده، حجم الأبواب يسمح بإن يعدِّي منُّه الترولّي اللي بيكون عليه المرضى، عشان كده خمِّنت إننا في مستشفى مهجورة..
لكن الحكاية هنا كانت مختلفة، يعني مكنتش ملاحظ بواقي سراير طبية مكسورة؛ ولا كراسي، ولا بواقي أدوات طبية مرمية في الأرض.. المكان تقريبًا مدخلوش أي حاجة تخُص تجهيزات المستشفى، زي ما تكون اتبَنَت واتشطَّبِت واتهجرت من قبل ما تدخل الخدمة، يعني لا لحق يدخلها مرضى ولا حد لحق يموت فيها، عشان نقول إنها اتلعنت واللعنة خلَّتها تتهجر..
كان لافِت للانتباه كمان إن اللي توقَّعته في الضلمة كان هو اللي قدامنا بمجرَّد ما العتمة بدأت تنكسر، رُخام الأرض والحيطان كان عليه نُقَط دَ.م بطريقة مُبالغ فيها، وده اللي خلَّى كريم يقول:
_دَه دَ.م فعلًا!
معلَّقتش على كلام كريم؛ لأن في الوقت ده عيني كانت مركّزة مع الأُوَض اللي العتمة منعتنا نشوفها من جوّه، ساعتها شُفتها على البلاط، مكانش فيها أي محتويات، لكن اللي كان أغرب من كده، هو إن حيطانها مكانتش ظاهرة، وسقفها كان حاله من حال الحيطان، وده بسبب الخفافيش اللي كانت لازقة في كُل شِبر منهم!
المَشهد كان مَهيب، وبرغم إن الخفافيش كانت ثابتة وكأنها مجرَّد ديكور على الحيطان والسقف، لكن منظرها ومَنظر نُقَط الد.م وهي نازلة منها بين كل فترة والتانية؛ كان كفيل بإنه يوصَّل رسالة، وهو إن المبنى دَه، واللي على الأغلب مستشفى، فيه لعنة، لأن الخفافيش غالبًا مبتسكنش في أي مكان والسلام، بالعكس؛ دي بتسكن الكهوف الضلمة والأماكن المهجورة، أي نعم دي الأماكن اللي بتفضَّلها، لكن في بعض الحالات وجودها بيكون مُرتبط بوجود كيانات تانية مبنقدرش نشوفها في الظروف الطبيعية، زي الكيان الغير مفهوم اللي ظهر من شوية في العتمة، واللي غالبًا هو سبب إن المكان يفضل خرابة ومش بيكون مكتوب له إنه يتعمَّر.
-إيه اللي ممكن يخلّي الخفافيش تستحوذ على مكان زي ده؟
سؤال كريم لفت انتباهي؛ ولأني مكانش عندي أي معلومة عن المكان، لكن جاوبته بشكل عام:
-حسب قراءاتي إن الخفافيش بتعيش في الأماكن الضلمة، الكهوف والخرابات، لكن وجودها في بعض الأماكن اللي مش متعوِّدة عليها بيكون وراه سبب مخليها مرتبطة بالمكان.
-تقصد وجودها مرتبط بوجود جِن في المكان؟
سؤال كريم كان معناه حاجة واحدة بس، وهو إنه مأخدش باله من الكيان اللي شُفته في الضلمة، وإلا كان رَبَط بين وجود الخفافيش وبين وجوده، لكنّي جاوبته:
-مفيش إثبات على ارتباط الخفافيش بالجن، إلا لو تَم الرَّبط بينهم عن قَصد.
-مُش فاهم إزاي يتم الرَّبط بينهم.
-يعني يا كريم لو حد استخدمهم في السِّحر، وبرغم إن مفيش رابط بين الخفافيش والجِن، لكن في حالة الرَّبط بينهم بيكون السِّحر أقوى مما تتخيّل.
جايز يكون كلامي بالنسبة لكريم كان كلام عام وعايم، لكن من جوايا كنت قاصد أقوله، لأن المنظر قدامي بيقول إن دَه حصل في المكان فعلًا، جايز ميكونش حصل امبارح أو السنة اللي فاتت، ممكن حصل من سنين طويلة واتسبب في لعنة، وتأثير اللعنة دي لسَّه مستمر لحد وقتنا هذا.
وقفت تفكير لما المكان اتغيَّر، الدنيا كانت ليل، وفي اللحظة دي شُفنا نفسنا قدام بيت، وشُفنا ولد مايجيش 10 سنين جاي بيجري من بداية الشارع، صرخاته بتقول إنه في حالة فزع، في نفس التوقيت باب البيت اتفتح وخرجت منُّه واحدة سِت، كانت ملهوفة على صوت الولد اللي كان واضح إنه ابنها، خبطت على صدرها والرعب بان في عينيها وهي بتبُص لمنظره وهو بيجري عليها، وأوّل ما وصل عندها قالت:
-مالك يا عبد الله؛ إيه اللي جرى؟
بدأ ياخد أنفاسه عشان يتكلم، وبرغم كده جاوبها بصوت مبحوح:
-الكورة وإحنا بنلعب دخلت من فوق سور المستشفى، دخلت أجيبها وبمجرَّد ما نطّيت من فوق السور شُفت قدامي واحد أسود، رجليه زي رجلين البَقر، ودماغه طالع فيها قرون طويلة.
كان تقريبًا نفس شكل الكيان اللي لمحته في المستشفى، وقبل ما أكمل تفكير سمعت أمه وهي بتقول له:
-أنا مُش منبِّهة عليك أوعى تعدِّي سور المستشفى مهما حصل! ما تخفى الكورة في ستين داهية، يعني لو قتلك وسابك للخفافيش تمُص دَ.مَّك كُنت هفرح أنا دلوقت!
بعد كلامها الصوت اختفى، وتقريبًا ده حصل عشان يعطي كريم فرصة يسألني:
-هي تقصُد مين بكلامها؟
-تُقصد إن المستشفى فيها شَبح، أو جِن، وإن وجود الخفافيش مرتبط بوجوده، وده معناه إن أهل البَلد عارفين إن المستشفى مهجورة وإن فيها شيء مش مظبوط.
المَشهد ده أكِّد على تخميني من البداية، وهو إن المبنى عبارة عن مستشفى، لكن زي ما قُلت في البداية برضه، مفيش مستشفى بتتهجر وبتتسكِن بالجِن من قبل ما تدخل الخدمة، يعني مفيش مريض نزف فيها نقطة دَ.م واحدة، وجايز ده أغرب ما في الحكاية كلها، وده السبب في إننا لما كنا جوَّه المبنى مشوفناش أي أحداث متعلِّقة بالناس أو أي حاجة حصلت معاهم، عشان كِدَه الرِّحلة المرَّة دي مختلفة وغريبة، وزوِّدت فضولي إني أعرف إيه الحكاية بالظبط.
زي ما اتعوِّدت؛ الموقع تجاوب مع فضولي، ساعتها شُفنا نفسنا في أرض واسعة بتنتهي عند جَبل، بس اللي كان لافت لانتباهي، إن الأرض كان فيها أنقاض بيت قديم، مكانش باقي منُّه غير حيطة ومُش كاملة كمان، وحوالين منها كان في كَسر حجارة باقية من البيت..
الأنقاض كانت قريِّبة مننا، وظهورنا في المكان دَه مكانش عبثًا، دَه أكيد الموقع جابنا هنا عشان الفضول اللي بيطرح جوايا أسئلة كتيرة، وبعد ثواني من ظهورنا في المكان ده، بدأ يظهَر في المشهد صوت اتنين بيتكلموا مع بعض، صوتهم كان جاي من ورا الحيطة، بدأنا نركّز معاهم وكان حوارهم كالتالي:
-متأكِّد إن الأرض تحتها كِنز؟
-بقول لَك عايمة على بَحر، والخبر ده عرفته من شِيخ شغلته إنه يعرف مكان الكنوز، الخَدَم اللي معاه متخصِّصين في الحكاية دي.
-يبقى على البركة، هشتري الأرض وتبقى بتاعتي، وبكده اللي تحتها يبقى بتاعي، وعمولتك محفوظة، والشيخ كمان هينوبه من الحُب جانب لما يساعدني أطلَّع اللي مدفون فيها.
المبلغ اللي اتقال باعتباره تمن الأرض في وسط الكلام، كان بيقول إننا رجعنا بالزمن سنين كتير، خصوصًا إن بعد الرَّقم اتقال "جنيه الفلاح"، وحسب معلوماتي؛ إن جنيه الفلاح ده ظهر في بداية النُّص التاني من العشرينات، في عهد الملك فؤاد الأول، وكان عليه صورة فلاح اسمه "إدريس"، عشان كده اتسمى بالاسم ده، أما الوجه التاني للجنيه؛ فكان عليه صورة لجامع المنصور قلاوون.
بعدها خرج الاتنين دول من ورا الحيطة، وحسب الكلام اللي سمعناه، إن اختيارهم للمكان دَه مكانش صدفة، ده عشان الكلام اللي بينهم محدش يسمعه لأن المواضيع دي من الحاجات اللي بتبقى من تَحت لتحت، ومُش بعيد إن الأرض نفسها اللي اتقابلوا فيها تكون هي اللي عليها العين.
المشهد اتبدِّل فجأة، بعدها شُفنا الشخصين دول موجودين في أوضة مع شخص تالت، ومكنتش محتاج كتير عشان أفهم إننا في أوضة ساحر، أو عشان أقرَّب المسافة عليكم، أوضة الشيخ اللي قال إن الأرض تحتها كِنز، وساعتها سمعت الشخص اللي اشترى الأرض وهو بيقول:
-الأرض بقت ملكي وتحت أمرنا، وبنيت حواليها سور، عشان محدش يرمي عينه ناحيتنا ويعرف اللي بيدور جوَّاها، طلباتك إيه يا شيخ.
-أول حاجة أنا ليَّا الرُّبع.
وقبل ما الشخص اللي اشترى الأرض يعلَّق على كلامه قال:
-والنسبة دي مُش كتيرة، لولا أنا مُش هتعرف توصل للكنز، وكمان الرَّصد اللي عليها شديد، ولازم يتسخَّر جِن أشد منُّه عشان يطرده، ودي حاجة مُش سهلة، أي غلطة ممكن روحي تروح فيها.
-ومحتاج إيه عشان تنفّذ.
-محتاج قُربان؛ حاجة تندبح على الباب اللي وراه الكنز.
-إيه بالظبط اللي هيندبح؟
-الحاجات دي مينفعش معاها غير دَ.م طفل.
ساعتها الشخص اللي اشترى الأرض اتفزع من مكانه وقال:
-بَس دَه قتل، وبعدين في النهاية هيوصلوا لنا ومش هنلحق نتهنّى بالكنز.
-خلاص، يبقى البديل هو دَ.م الخفافيش، محتاجين خفافيش تندبح عند الباب والتعويذة تتقال على دَ.مَّها.
-والخفافيش دي هنجيبها منين؟
-الأرض جنب الجبل، والجبل مليان كهوف، والكهوف مأوى الخفافيش.
بمجرَّد ما سمعنا الكلام ده؛ لقينا نفسنا على باب كهف في الجبل، أي نعم مشوفناش إيه اللي حصل جوَّاه، لكن الصورة اللي قدامنا لخَّصت كل شيء. أصل شُفناهم وهُما خارجين من الكهف وفي إيدهم شوال من خيش، وكان جوَّاه خفافيش بتحاول تهرب من الشوال..
ولحد هنا المشهد اتغيَّر، ولقينا نفسنا في أرض مبني حوالين منها سور، وفي اللحظة دي لقيت كريم بيسألني:
-إحنا كده في الأرض اللي بيتكلموا عنها؟
-مفيش تفسير غير كده، خصوصًا إن قدامنا حُفرة، وده معناه إنهم حفروا عشان يوصلوا لباب الكنز اللي بيتكلموا عنه.
تخميني كان صحيح؛ لأن ساعتها لقينا نفسنا عند بداية الحفرة، وكان جوَّاها الـ 3 أشخاص، كانوا بيدبحوا الخفافيش قدام صخرة موجودة في قاع الحفرة، الدَّ.م غرَّق الصخرة وساعتها الساحر كان بيقرأ تعويذة كلامها مُعقَّد ومفهمتش منه حاجة، ساعتها الصخرة اتهزَّت، افتكرت إن باب الكنز اتفتح، لكن اللي حصل بعدها إن الساحر فضِل يتشنِّج لحد ما وشُّه بقى أزرق ومات، وفي اللحظة دي الاتنين اللي معاه هربوا من الحفرة.
لكن أنا وكريم فضلنا زي ما إحنا والمكان متغيَّرش، بس ده عشان نشوف اللي حصل، جثة الساحر اتسحبت تحت الأرض واختفت، وبعدها ظهر نفس الكيان اللي لمحته في المستشفى، ولحد هنا كريم سألني:
-دَه الرَّصد؟
-دَه مُش رصد ولا حاجة، المفروض والطبيعي إن الرَّصد يهرب ويسيب المكان، لكن ظهور الكيان ده معناه إن ده هو اللي حضر بسبب التعويذة، وحكاية إنه يقتل الساحر معناه إنه غضبان لأن تحضيره مكانش صح.
في اللحظة دي لقينا نفسنا في أوضة، كان فيها واحدة بتصرخ وهي خايفة، وده بسبب إن كان في شخص ممدد على السرير وميِّت، وشه كان أزرق وباين عليه الرعب، والشخص ده باختصار، هو الشَّخص اللي كان المفروض ياخد عمولة لأنه بلَّغ الشخص اللي اشترى الأرض بالحكاية، وكان حلقة الوصل بينه وبين الساحر.
والمشهد اتبدّل مرَّة تانية، عشان نشوف نفسنا في أوضة مختلفة، ونفس الأحداث كانت بتتكرَّر، لكن باختلاف السِّت اللي بتصرخ، وباختلاف الشخص اللي ميِّت على السرير، واللي كان هو نفس الشخص اللي اشترى الأرض، ولاحظنا في كلامها وهي بتصرخ إنها كانت بتقول:
-ده أنت حتى ملحقتش تجيب عيّل يشيل اسمك ويورث الفلوس اللي عيشت طول عمرك تجمعها!
كده الحكاية بقت واضحة، الجِن اللي اتحضَّر قضى على أضلاع المثلث، اللي كانوا سبب في تحضيره، بَس ياترى ليه؟
بمجرَّد ما سألت نفسي، لقينا نفسنا في أوضة الساحر، بس التوقيت كان قبل ما يموت، لأنه كان قاعد في مكانه وقدامه واحد بيقول له:
-بلاش السكة دي يا حسانين، بلاش تفتح أبواب الكنوز بالسحر، اللي معاك شيطان والشياطين طبعها المَكر، ممكن يغدر بيك في مرَّة ويقول لك على مكان كِنز وهمي، وساعتها الجِن اللي هتحضَّره لما يلاقيك بتسخَّره بدون كنز حقيقي هيقضي عليك في وقتها، ومُش بعيد يقضي على كل اللي موجودين معاك.
وكأننا رجعنا لأوضة الساحر عشان نسمع الكلمتين دول بس، لأنهم لخصوا كل حاجة، وجاوبوا على أسئلة كتيرة كانت في بالي، وبالحق، بعد ما سمعنا الكلام ده وقبل ما نسيب الأوضة، شُفنا جثة الساحر وهي ميِّته في المكان اللي كان قاعد فيه، وده معناه إن الجِن اللي اتسخَّر نقل جثته للأوضة بتاعته؛ عشان محدّش يحتار كتير، ويتقال إنه مات وهو قاعد.
بعدها رجعنا للأرض، الحفرة كانت مردومة، ومعرفش ليه كان جوايا إحساس إن الجِن اللي اتسخَّر هو اللي ردَمها، مُش لأن تحتها كنز أو حاجة، دَه حسب الكلام اللي سمعناه إن لو تحتها كنز مكانش الناس دي ماتت من الأساس، وطالما الإحساس ده وصلني وإحنا في الرحلة، يبقى أكيد هو الحقيقة، خصوصًا إن الموقع مخلانيش أشوف أي حدث ينفي الإحساس ده.
المكان اتغيَّر ولقينا نفسنا في بيت كبير، كان في ناس كتير موجودين، وكان باين عليهم إنهم كُبراء البلد، ساعتها لمحت نتيجة ورق، التاريخ اللي فيها كان سنة 98، وبمجرد ما عيني لقطت التاريخ لقيت واحد منهم بيقول:
-يبقى توكلنا على الله، طالما الأرض موجودة وصاحبها مات من زمن ومالوش وريث، يبقى نقدم طلب للمحافظ ونعمل عليها مستشفى.
كالعادة، المشهد اتبدّل، ولقينا نفسنا عند المستشفى، لكن المرَّة دي مكنّاش جوَّه المبنى، إحنا كُنا برَّه، شايفين المبنى بالكامل والجبل اللي على مسافة قريبة منها، وكأن الموقع بيخلينا نتأكد إن المستشفى اللي كنا جوّاها هي نفسها المستشفى اللي اتبنت على نفس الأرض، واللي من الواضح كده إنها اتلعنت بسبب اللي حصل فيها، ولحد هنا لقيت كريم بيقول:
-يعني الحكاية مُش في المستشفى نفسها.
ساعتها ردّيت عليه وقُلت له:
-مُش هتفرق كتير، المستشفى بدل ما تدخل الخدمة وتحصل فيها حالات موت من الحوادث، ويبدأ فيها ظهور أشباح وعفاريت وتتلعن زي ما بيحصل في العادي؛ اتبنت أصلًا على أرض ملعونة جاهزة، عشان كده كان مكتوب لها إنها تتلعن من قبل ما تتبني، واللي حصل سبب كافي إن الخفافيش تسكنها، لأنها أولًا مهجورة، ولأن دَ.مَّها هو اللي اتقرأ عليه التعويذة اللي الأرض اتلعنت بسببها وحضر فيها الكيان ده، اللي ملقاش حد يصرفه، والكيانات دي عاملة زي الشَّجر، كل ما الزمن فات عليها في المكان، كل ما جذورها بتغرز فيه وبتقوى، وبيبقى من الصعب إنه يسيبه ويمشي، عشان كده المستشفى مدخلتش الخدمة زي ما اكتشفنا وإحنا جوَّاها، لأن أكيد الكيان ده جذره بيقوى بقاله سنين طويلة، دَه غير الدَّ.م اللي في المكان بسبب الخفافيش، بيخلي اللعنة اللي في المكان تزيد، ومش بعيد الكيان ده يكون ورا وجود الخفافيش اللي ارتبطت بتحضيره، عشان الدَّ.م اللي بتسيبه في مكانها يساعده إنه كل يوم يبقى أقوى من الأول، وتفضل المستشفى ملعونة وعليها مشاكل تمنعها من دخول الخدمة.
لحد هنا لقيت نفسي بفتح عيني، ساعتها رجعت أوضتي وكان اللاب توب قدامي، صفحة الموقع كانت لسه موجودة، لكن مكانتش بتعرض أي حاجة غير لونها الأسود، وفي اللحظة دي حسيت باهتزاز تليفوني اللي كان مقلوب على وشه، مديت إيدي ناحيته وكنت عارف إنها المكالمة المعتادة من كريم اللي لما ردِّيت عليه قال:
-آلو.
-حلمت بإيه تاني؟
-تخيَّل إني حلمت بمستشفى اتلعنت من قبل ما تتبني؟
-إزاي؟
-مُش مصدَّقني؟ تِحب أحكي لَك الحِلم؟
-ماشي يا عم كريم، احكي وأنا سامعك.
كنت بسمع منه نفس تفاصيل الرحلة، وجايز دي من المرَّات القليلة؛ اللي خلّيت كريم يعيد فيها تفاصيل الرحلة بالكامل برغم إني عارفها، وده بسبب إن الحكاية كانت معلَّقة في دماغي، لأنها كانت أغرب لعنة من لعنات المستشفيات المهجورة اللي قابلتها في حياتي.
تمت...