طول عمري بخاف أنزِل بدروم بيتنا، بالرغم من إني عرفت إن فيه مكتبة كبيرة، كانت تخُص جدي الله يرحمه، أصله كان بيحب يقرأ كتير، وزمان مكانش في كهربا زي دلوقت، وكانت وسيلة الإضاءة المتاحة هي لمبة الجاز.
يمكن دي هي سبب الكارثة اللي حصلت، لما جدي راح في النوم وهو قاعد بيقرأ على مكتبه في البدروم، وعلى حسب ما سمعت، إنه حرَّك إيده وهو نايم وخبطت لمبة الجاز، وساعتها وقعت والجاز سال على المكتب ووصل لهدوم جدي، والنار مسكت فيه، وده كان سبب إنه مات محروق في البدروم.
رغم إن فاتت سنين طويلة على الحكاية، ودلوقت الزمن بقى غير الزمن، لكني مش قادر أنسى حادثة جدي اللي سمعتها من أبويا. المكان مقفول من وقتها تقريبًا، أبويا بس اللي بينزل كل فين وفين، لأنه كل ما يطلب منّي حاجة أقول له:
_أنا مستحيل هنزل البدروم، أنت نسيت إن جدي مات محروق فيه؟ دا أنت اللي قلت لي الحكاية بلسانك.
لا كلامي كان بيتغيَّر ولا تعليق أبويا، لأني كل ما أقول له كده يقول لي:
_مش عارف يا مدحت إيه علاقة حادثة جدك بخوفك من نزول البدروم!
_يمكن يطلع لي عفريت تحت ولا حاجة.
وساعتها كنت بسمع الجملة الشهيرة من أبويا:
_يابني ما عفريت إلا بني آدم.
عمري ما قدرت أفهم معنى الجملة، ولا يعني إيه ما عفريت إلا بني آدم، يعني هو الإنسان بيتحوِّل لعفريت ولا إيه؟
برغم الجملة اللي أبويا بيحاول يقنعني بها، إلا إني برضه عمري ما نزلت البدروم، وبرغم إن أبويا اتكلم معايا كتير، كلام من اللي هو: إيه يابني اللي هيكون تحت يعني؟ دول شوية كتب ومكتب كان جدك الله يرحمه بيقعد عليه، وكرسي المكتب اللي حصلت عليه الحادثة اترمى، غير محاولة الإقناع اللي بيختم بها دايمًا وهو بيقول لي:
_ما أنا بنزل تحت من وقت للتاني، إيه اللي حصل لي يعني؟!
لحد ما اليوم اللي كنت خايف منُّه جِه، أبويا تعِب تَعَب شديد، لدرجة إنه مبقاش بيقوم من السرير، من جوايا كنت حاسس إن أبويا في أيامه الأخيرة، وهو تقريبا كان حاسس بنفس الإحساس ده، لأني اتفاجأت إنه بيتصل بالمحامي، وبيطلب منه ييجي عندنا البيت.
لما المحامي وصل، وقعد مع أبويا في أوضته؛ كنت حاضر معاهم، واتفاجأت إنه بيطلب منه يخلص شوية أوراق خاصة بأملاكه، وفي نُص الكلام لقيته بيبُص لي وبيقول:
_مدحت؛ انزل هات حُجة البيت من تَحت.
بصيت حواليا زي اللي مش مستوعب إنه بيكلمني وقولت له:
_أنا؟.. تَحت فين إحنا في الدور الأرضي أصلًا.
لكنه شاور بإيده تحت ناحية الأرض وقال لي:
_الحُجة في البدروم تحت!
بلعت ريقي وأنا بنقل عيني بينه وبين المحامي، نظرات أبويا ليا كانت كلها توجُّس وخوف، زي ما يكون بيقول لي: بلاش تعمل زي كل مره؛ المحامي موجود، وأنا كنت بفهم أبويا من غير ما يتكلم، وده اللي قرأته في عينيه وفهمته من نظرته.
قومت من مكاني بالعافية، كل اللي قدرت أقوله هو إني سألته:
_الحُجة تحت فين بالظبط؟
_في مكتبة جدك الله يرحمه، هتلاقيها في كتاب قديم ورقه أصفر.
لأول مرة كنت أنزل السلالم اللي بتوصَّل للبدروم، كل اللي أعرفه عن المكان هنا إن مفتاح البدروم متعلَّق على مسمار جنب الباب، وفعلًا لقيته في مكانه، مسكت المفتاح وفتحت الباب وإيدي بترتعش، ولما الباب اتفتح؛ لقيت البدروم ضلمة، استعذت بالله من الشيطان ودخلت والخوف بياكل في جتّتي، ولما دخلت دوَّرت على مفاتيح الكهربا، اللي كانت في الحيطة جنب الباب من جوَّه، وساعتها بس فتحت النور والضلمة اختفت.
دي أول مرة في حياتي أدخل فيها البدروم؛ وأشوف اللي فيه، مكتبة كبيرة وكتب متبعترة هنا وهنا، تقريبًا جدي كان عامل البدروم لمزاجه، عاش فيه ومات فيه، يعني لو كان في كهربا وقت ما كان عايش مكانتش لمبة الجاز اتقلبت عليه وهو نايم، ولا حصل اللي حصل، بس هي أعمار، مفيش حد بيعيش أطول من عمره، ولا بيموت ناقص عمر.
لما بصيت ناحية المكتب، عيني جت على لمبة جاز قديمة، مكنتش محتاج حد يقول لي إنها سبب الكارثة، لأن إزازها مشروخ، وده دليل إن الشرخ حصل لما وقعت وقتها، ما علينا.. بدأت أقرب من المكتبة ومش عارف أتخلص من خوفي ناحية المكان، لحد ما وقفت قدام المكتبة، ساعتها بس حسيت بحيرة فظيعة، أبويا قال لي إن الحُجة في كتاب قديم ورقه أصفر، ونُص الكتب اللي قدامي قديمة وورقها أصفر!
بمجرد ما قولت الكلام ده في سرّي؛ سمعت صوت بيقول لي:
_الكتاب في رف المكتبة التاني، تالت كتاب على إيدك اليمين.
بالفعل قرَّبت من الكتاب، شديته من المكتبة وبدأت أفُر في ورقه، وفعلًا لقيت الحُجة، حطيتها في جيبي ورجَّعت الكتاب مكانه، لكن لقيت نفسي بقول: "هو مين اللي قال لي على مكان الحُجة؟ أكيد مش أبويا لأنه مش بيمشي، دا غير إن ده مش صوته، ومستحيل المحامي هينزل ورايا يقول لي على المكان".
سمعت صوت نبش جاي من ناحية المكتب، بصيت ناحية الصوت وساعتها كتمت صرخة جوايا، معرفش ازاي كتمتها، لأني شوفت شخص قاعد على المكتب، معرفش هو مين ولا دخل هنا ازاي، بس مش ده المهم، اللي كان راعبني إن راسه كانت جمجمة مشوَّهة وزي ما تكون محروقة، وكان قاعد على كرسي المكتب اللي المفروض أبويا قال لي إنهم اتخلصوا منه بعد الحادثة، وبيقلب في كتاب قديم قدامه، وبرغم إني مكنتش مصدق اللي شايفه بعيني، لكن لساني نطق غصب عني وقولت:
_أنت مين؟!
بدون ما يلتفت ناحيتي ولا يبعد عينيه عن الكتاب قال لي:
_طبعًا متوعاش عليا، ولا قدرت تعرفني في شكلي الجديد، أنا جدك يا مدحت!
لساني اتخشِّب زي ما أكون بلعت معلقة شَبَّة، بس حاولت على قد ما أقدر إني أنطق فقولت:
_جدي!.. جدي مات من سنين طويلة، من قبل ما اتولد بأيام.
_أنت بتحكي لي تاريخ أنا عارفه أكتر من أي حد، الواحد زي ما بيحفظ تاريخ ميلاده، بيحفظ برضه تاريخ موته.
_أنت عفريت؛ أيون عفريت، دايمًا كنت أقول لأبويا إن البدروم زمانه مسكون وهو مصدَّقنيش، يمكن ربنا عمل كده وخلاني أنزل هنا على شان أقطع الشك باليقين، وأتأكد من إن البدروم مسكون.
_أنت مكبَّر الموضوع ليه؟ دا الطبيعي لما حد بيموت موته مش طبيعية، بيطلع له عفريت، بيمشي من الدنيا ويسيب عفريته في مكان موته، مش دايمًا أبوك يقول لك ما عفريت إلا بني آدم، دي حقيقة، لأن العفريت بييجي من الإنسان اللي بيموت موته بشعة.
_أنت إزاي ظهرت لي وأنا استعذت بالله قبل ما أدخل البدروم؟
_أكتر حاجة زعلان منها هو إن ليا حفيد غبي، أنت استعذت بالله من الشيطان، وأنا مش شيطان، أنا عفريت، فرق كبير أوي يا مدحت بين الاتنين.
ساعتها نور البدروم انطفى والدنيا بقت ضلمة، وبرغم إن رجلي مكانتش شيلاني، لكن لقيت نفسي باخد ديلي في سناني وبجري ناحية الباب، وقفت عنده وبدأت أفتح وأقفل في مفاتيح الكهربا بطريقة هيستيرية، لحد ما النور اشتغل تاني، معرفش المفاتيح كانت معلَّقة لأنها مش بتشتغل كتير ولا إيه، مش ده المهم؛ اللي كان مهم فعلًا؛ هو إن البدروم لما نوَّر تاني؛ لقيت المكتب فاضي ومفيش حد موجود عنده، حتى الكرسي اختفى، جدّي أو عفريته مكانش له أثر، زي ما يكون ظهر بس على شان يقول لي على مكان الحُجة، ويفسَّر لي الجملة اللي دايمًا أبويا يقولها لي ومكنتش فاهم معناها، وهي ما عفريت إلا بني آدم.
قفلت نور البدروم والباب وحطيت المفتاح مكانه، ومعرفش ليه حسيت إن كل اللي حصل جوه ده كان هلوسة من الخوف، فكرة إن البدروم مسكون ممكن تكون هي اللي خلتني أتخيل ده، بس لقيتني بحُط إيدي على جيبي، ساعتها اتأكدت إن الحُجة معايا، وسألت نفسي سؤال بما إني مكنتش عارف مكان الحُجة، لو إن اللي شوفته مكانش حقيقة يبقى إزاي وصلت للحُجة وبقت معايا؟!
طلعت فوق وعطيت الحُجة لأبويا، حاولت إن ميبانش عليا أي خوف، كنت خايف يحرجني بكلمة قدام المحامي، ويقول لي: اللي بيخاف من العفريت يطلع له مثلًا، حاولت أتعامل عادي، بس بعد اللي حصل معايا اتعلمت حاجتين في منتهى الأهمية، الأولى إن إحساسي ناحية البدروم بعد الحادثة اللي حصلت فيه لجدي كان صح، وإن إحساسي مش بيخيب، والحاجة التانية؛ هي إني عرفت يعني إيه ما عفريت إلا بني آدم، ويمكن كمان المثل اللي افترضته من شويه برضه صح، إن اللي بيخاف من العفريت بيطلع له، يمكن لأني خوفت عفريت جدّي ظهر لي، ما أبويا مش بيخاف. كان بينزل ولا بيحصل حاجة، أو يمكن حصل معاه زي ما حصل معايا وبيعمل قدامي إنه مش بيخاف، كل شيء جايز، بس اللي أكيد ومش محتمل إنه يكون جايز، هو إني قررت ما انزلش البدروم تاني، حتى بعد عمر طويل لأبويا، وأظن الحُجة بقت معاه، يعني مفيش سبب تاني يخليني أنزل تَحت.
تمت...