"أنت ملعون؛ أيون ملعون وبقولها بالفُم المليان".
***
يادوب فات أسبوع على وجودي هنا، بعد ما الظروف أجبرتني أخرج من البلد اللي اتولدت وعيشت فيها، سيبت أهلي وأصحابي ومشيت؛ ومسيبتش ورايا معلومة واحدة تخلِّي حد يعرف طريقي، واللي أجبرني أعمل ده هو الشيء الملعون اللي اسمه التَّار، واللي هو باختصار إنك تدفع حياتك تمن جريمة أنت مَرتكبتهاش، زي ما أنا اتكتب عليا أدفع تمن قَتل واحد من عيلة في بلدنا، لمجرد إن أبويا حط إيده على أرضه وقتلُه لما اختلفوا على ملكية الأرض، والحكاية دي حصلت من ١٧ سنة وأنا لسَّه حتة عيِّل، بس لمَّا كبرت الوضع اختلف، وبقى لازم أهل القتيل يخلصوا تارهم منّي لأن أبويا هرب بعد ما عمل عملته، على شان كده هربت، وفي الوقت ده الهروب من ساحة المعركة مبيكونش جُبن، بالعكس؛ ده بيكون عين العقل والحكمة كمان، لأنك مبترضاش تكون كبش فِدا، أو تتعامل معاملة الفرخة اللي روحها ملهاش تمَن، يعني هروبي مش خوف على قد ما هو اعتزاز بنفسي، واحترام لإنسانيتي؛ أنا كنت مستعد أسدد دين على أبويا، لكن إني أدفع تمن جريمة ارتكبها على شان طمعان في حتة أرض ده لأ، والتار مفيهوش يامّا ارحميني، هتتفاجئ إنه بتقع من طولك بعيار مُش هتعرف جاي لك منين، على شان كده هربت لحد ما ربنا يرحمنا والشيء الملعون اللي اسمه التَّار ده ينتهي والناس تفوق، وكل واحد يشيل شيلته ومفيش حد يتّاخد بذنب حد، وبحر الدَّم اللي مالوش قرار ده يخلص.
لكن تقدروا تقولوا إن اللي اتكتب عليه يهرب؛ كل حاجة بتبدأ تطارده، حتى نفسه بتتحول ضدُّه، وأنا بقول الكلام ده لسبب؛ وهو إني من وقت ما جيت هنا، وأعذروني لأني مش هقدر أقول اسم المكان اللي أنا فيه، زي ما أنتوا عارفين إني هربان من تَار، بس اللي أقدر أقوله هو إني سكنت في شقة أوضة وصالة موجودة في بيت قديم؛ حتى الشقة شكلها من جوَّه أقدَم من البيت نفسه ومقفولة من فترة طويلة، إيجارها كان مناسب للشغل اللي بشتغله، لأني اتعرَّفت على مقاول أنفار وقولت له إني جاي أدوَّر على شغل، وهو شغَّلني وبقيت بطلع معاه يوميات، وهو اللي ساعدني آخد الشقة، حتى كتب عقد الإيجار باسمه وبيخصم الإيجار من فلوس شُغلي، وطبعًا قولت للمقاول إن اسمي حمدان، وده طبعًا مش اسمي الحقيقي، ده غير إني كنت بلثِّم وشّي بالكوفيّه وأنا ماشي في الشارع على شان محدش يتعرَّف عليا، حياة كلها خوف؛ عايش مستخبي، عايزك بس تتخيَّل شكل الحياة دي وهتعرف أنا عايش إزاي، مكان غير مكانك واسم غير اسمك، حياة كل ما فيها مش بتاعك.
بعد ما رتِّبت الشقة وشيلت التراب اللي كان على كل حاجة فيها، وقضيت أول ليلة بعد ما طلع عيني من التعب، كنت نايم على كنبة في الأوضة لأن مكنش في سرير، ساعتها صحيت على صرخة واحدة جنبي، اتفزعت وقومت وقفت في الأوضة زي خيال المآتة، الدنيا كانت ضلمة ومعرفش إن كان الصريخ ده جوَّه الشقة ولا جاي من برَّه، كنت بلِف حوالين نفسي زي عقرب ساعة مفوِّت، ومع الوقت اتأكدت إن صرخة الست جوَّه الأوضة، بالتحديد من ناحية الكنبة اللي كنت نايم عليها.
أوِّل حاجة فكَّرت فيها هي إني فتحت نور الأوضة، في الوقت ده كنت واقف بطولي وملقتش حد موجود غيري، ساعتها بس استعذت بالله في سرِّي، وقولت كابوس أو حِلم دمُّه تقيل بسبب تغيير النومة والمكان، ده غير تعب الأعصاب اللي شوفته الفترة اللي فاتت؛ من وقت ما خرجت بالليل من البلد لمَّا عرفت إن أهل القتيل قرروا ياخدوا التار منّي؛ ولحد ما جيت هنا واتعرَّفت على المعلم عباس المقاول، وربنا كرمني بالمطرَح ده.
طفيت النور ورجعت أكمل نومي، اتمددت على الكنبة وغمضت عيني، ساعتها اتفزعت من تاني؛ نفس الصرخة، بس المرَّة دي سمعت حاجة غريبة، وهي إن نفس صوت الست كان بيزعق وبيقول:
"أنت ملعون؛ أيون ملعون وبقولها بالفُم المليان".
من وقتها وكل ليلة بسمع صوت الست وهي بتقول نفس الكلام، لدرجة إن مفيش ليلة فاتت من وقت ما سكنت المطرح ده غير لما بقوم مفزوع على صرخاتها واللي بتقوله.
دلوقت أسبوع بحاله عيني مبتشوفش النوم بالليل، وأنا معنديش رفاهية إني أغيَّر المكان أو أختار مطرح تاني، أصل مش هقول للمعلم إني بسمع ست بتتكلم في الشقة بالليل، ولو روحت من نفسي أخدت مكان تاني؛ أكيد صاحب المكان هيطلب مني البطاقة على شان العقد، وساعتها اسمي الحقيقي هيتعرف، ودي حاجة أنا مش عاوزها تحصل، وده اللي خلاني حاطط لساني في بوقي ومبتكلمش خالص.
والنهاردة خرجت كالعادة بعد الفَجر على شان شغلي، بعد أسبوع تقريبًا عيني مداقتش فيه النوم غير تخاطيف، الصداع كان هيفَرتِك دماغي وحاسس إني مش شايف قدامي كويس، وده كان سبب إني مكنتش عارف أتحكم في قصعة المونة اللي شايلها وأنا طالع على السلم الخشب في الشغل، وكان نتيجة ده إن القصعة وقعت من إيدي بالمونة اللي فيها، وساعتها المعلم عباس المقاول زعق فيا وقال:
-ما تفتَّح يا حمدان؛ المونة اللي وقعت في الأرض دي مش ببلاش، مُش مال سايب، وبعدين لو وقعت على نافوخ حد هتجيب أجلُه، ما تبقاش خِرِع أومّال.
أكتر شيء ضايقني هو شكلي وسط العمال، من وقت ما اشتغلت هنا ومشوفتش حاجة زي دي حصلت مع حد، وده اللي خلاني أسحب نفسي وأروح للمعلم عباس وأقول له:
-أنا هستأذن النهاردة يا معلم؛ تعبان مش قادر أشتغل.
ساعتها بَص لي من فوق لتحت وقال:
-تعبان مالك يا حمدان؟
-عندي صداع شديد ومش قادر أفتح عيني يا معلم.
-أنت مش بتنام كويس ولا إيه؟ أوعى تكون شوفت لَك شوفة كده ولا كده وتستغل الشقة في الهَلس، حافظ على صحتك يا حمدان السكة دي بتضيَّع الصحة، وأنت شوفت بنفسك والقصعة بتقع من إيدك ومش قادر تصلُب طولك.
بمجرد ما قال الكلمتين اللي مالهومش لازمة دول حسيت إني سمعت صرخة الست من تاني؛ وهي بتزعق وبتقول: "أنت ملعون؛ أيون ملعون وبقولها بالفُم المليان". في اللحظة دي الصدمة خلَّتني أغمَّض عيني وأفتحها من تاني، زي ما أكون مش مستوعب إن الصوت رن في ودني وأنا صاحي زي ما بسمعه كل ليلة، بس في اللحظات اللي عيني غمضت فيها شوفت الأوضة، وساعتها عيني جت على ست لابسة أبيض وشعرها سايب، دراعاتها ووشها كانوا كلهم جروح، مكنتش مستوعب مين الست دي، واللي كان محيَّرني أكتر هي إن الست كانت متكتّفة من إيدها ورجليها ومربوطة من رقبتها في رجلين الكنبة بتاعتي!
وأنا بفتح عيني بعد ما شوفت المنظر ده قدامي جسمي اتهَز، ولقيت المعلم عباس بيبُص لي وبيعيد عليا سؤاله من تاني:
-بقول لَك مالك يا حمدان؛ مش بتنام كويس برضه ولا بتهلِّس في الشقة؟ ما أنا عارف شباب اليومين دول شباب طايش.
بلعت ريقي وجمَّعت الكلام على لساني وقولت:
-لا أبدًا يا معلم مفيش كلام من ده، بنام كويس والمطرح اللي عايش فيه زي الفُل، كل الحكاية إني تقريبًا واخد دور برد.
في الوقت ده المعلم بَص لي وقال لي:
-برد إيه يا حمدان اللي بييجي دلوقت، الجو مُش برد ولا حاجة، وبعدين ما أنت واقف قدامي زي الفل أهو؛ لا بتعطس ولا بتكُح ولا باين عليك حاجة، هي إيه الحكاية؟
مكنتش لاقي حاجة أرُد بها على كلامه، ولا عارف أحكيله عن اللي بسمعه، مش بعيد لو قولت له يتّهمني رسمي بالهلس والهلوسة مع بعض.
كُنت مُصمِّم إني أمشي من الشُّغل، لأن دماغي مكانتش فيا، وممكن لو كمّلت شغل وأنا في حالتي دي أتسبب في كارثة، وساعتها المعلم عباس قال لي:
-على كيفك يا حمدان، بس تبقى عارف إن هيتخصم منك نُص يوم؛ أومال. الحَق ميزَّعَّلش.
أخدت بعضي ورجعت على الشقة، كنت متردد أدخل بس مكانش في مكان تاني أروحه، أنا يادوب بين الشقة والشغل ومبروحش هنا ولا هنا.
دخلت الشقة وقفلت الباب؛ ورغم إننا لسه بالنهار بس الشقة كانت ضلمة، لأن الشبابيك كلها مقفولة ومفيش مكان الشمس تدخل منُّه، قعدت على الحصيرة اللي في الصالة؛ بعد ما قلعت جلابيتي وحطيتها جنبي وسندت ضهري للحيطة، معرفش ليه كنت خايف، والواحد مننا لما بيخاف شريط حياته بيفوت قدامه؛ وساعتها حسيت إني راكب قَطر لمسافة طويلة وببُص من الشبابيك، ومكانش في غير الخوف على يميني وشمالي، وفي الوقت ده قولت في سرِّي:
"وبعدهالَك يا حسين"...
متستغربوش، ماهو ده اسمي الحقيقي اللي مخبّيه عن الناس، حسين عبد الرحيم القط؛ واللي لما بتكلم مع نفسي بقوله.
ورجعت أكلِّم نفسي من تاني:
"أبوك عمل عملته وهرِب وأنت اللي شيلت الطين على دماغك؛ سيبت حالك ومحتالك وجيت على بلد مُش عارف تعيش فيها، همَّلت دراستك في الجامعة وبقيت تشتغل على دراعك، ويوم ما لقيت أربع حيطان يداروك وعينك مداقِتش النوم بسبب حاجة مكانتش على الباب ولا على الخاطر".
بعد كلام كتير مع نفسي؛ لقيتني بسألها سؤال:
"ولا أنت اتجننت بسبب اللي حصل معاك يا حسين؟".
غمضت عيني وسندت راسي على الحيطة اللي ورايا وأنا بسأل نفسي السؤال ده، بس زي ما يكون تغميض العين هو كمان اتحوّل للعنة، لأن للمرة التانية بغمَّض عيني وبشوف قدامي الأوضة والست المتكتّفة ومربوطة من رقبتها في رِجل الكنبة.
اتفزعت وقومت من الأرض، معرفش ليه رجلي أخدتني على الأوضة، وقفت أبُص حواليا وأنا مش لاقي سبب يخليني أعمل ده، ولأن المكان ضلمة ومكنتش شايف كويس فتحت نور الأوضة، وأول حاجة عملتها هو إني بصيت ناحية رِجل الكنبة اللي شوفت الست مربوطة فيها، ساعتها بوقي اتفتح غصب عني من الذهول وحسيت برجليا بتدوب تحت منّي ومش قادرة تشيلني، لأني لقيت بواقي حبل غليظ ملفوف على رجل الكنبة اللي شوفت الست مربوطة فيها.
بدأت أقرَّب وأنا قلبي بينبُض، لحد ما وصلت عند رِجل الكنبة ونزلت على ركبي في الأرض، وساعتها مدّيت إيدي ومسكت الحبل، واللي كان واضح جدًا إنه مقطوع بسكينة أو مَقص، واللي قطعُه ساب عُقدة الحبل زي ما هي في رِجل الكنبة.
ياترى إيه الحكاية؛ هي الست اللي بشوفها دي كانت مربوطة هنا بجد ولا إيه؟ ولا أنا بخرَّف؛ طيب ولو كل دي تخاريف، الحبل اللي حوالين رِجل الكنبة ده إيه؟
اتصدمت لما نور الأوضة انطفى من نفسه، في البداية فكَّرت إن الكهربا قطعت، بس تكِّة مفتاح الكهربا اللي أنا فتحته من شوية وهو بيتقفل خلَّتني أغيَّر تفكيري، لأن المفتاح اتقفل وصوت تكِّته وصلت وداني.
قومت من الأرض وأنا مش قادر أصلُب طولي، ويمكن ده كان السبب في إني بصيت ورايا بالعافية، بس لما بصيت مشوفتش حاجة، مفيش غير الأوضة الفاضية وبابها المفتوح على الصالة الضلمة، بدأت أتحرَّك ناحية مفتاح الكهربا، ولما وصلت عنده مدّيت إيدي عليه، وساعتها اتأكدت إنه مقفول فعلًا.
واتفاجأت إني بضغط على المفتاح، والأوضة نوَّرت من تاني، ساعتها بس اتأكِّدت إن المفتاح اتقفل من نفسه، أو...
معقول اللي بفكَّر فيه ده؟
لقيتني بقطع تفكيري وبسأل نفسي السؤال ده، المفتاح عمره ما يتقفل غير لو في حد قفله، ويادوب كنت لسه بدوَّر على إجابة تفسَّر اللي حصل؛ وسمعت صرخة ورايا، نطِّيت من الأرض وأنا جسمي بيتزلزل لما سمعت نفس الصرخة وكنت بسمع وراها نفس الجملة: "أنت ملعون؛ أيون ملعون وبقولها بالفُم المليان".
حسيت إني دخلت فريزر درجة حرارته عشرين تحت الصفر، لدرجة إن جسمي اتجمِّد في لحظات، الخوف خلَّاني متخشِّب في بعضي؛ حتى رقبتي مكانتش راضية تتحرَّك على شان أشوف اللي ورايا، لكن الحظ خدمني؛ لأن كان في مراية مكسورة على الأرض ومسنودة على الحيطة اللي قدامي، وأنا يادوب كل اللي قدرت عليه إني أحرَّك عينيا وأبُص عليها، على شان ألاقيها بتعكس صورة الكنبة اللي ورايا، واللي كان ظاهر جنبها الست، متكتِّفة من إيدها ورجليها ومربوطة من رقبتها في رجل الكنبة، بنفس الهدوم البيضا ونفس الشكل اللي بشوفها فيه لما بغمَّض عينيا.
أنا زي ما أكون كنت متجمِّد بجد، لأني لما شوفت المنظر ده في المراية حرارة جسمي اترفعت من الخوف، ساعتها بس حسيت إني اتحرَّرت من الجمود اللي كنت فيه، بصيت ورايا على شان أتأكد من الصورة اللي معكوس على المراية، بس لقيت المكان فاضي، في نفس الوقت اللي كانت فيه الصورة اللي معكوسة في المراية زي ماهي، كأن المراية هي اللي قادرة تشوف الست وبس، إنما عيني كانت عاجزة إنها تشوف حاجة.
"مالك يا حسين؟".
برغم إني كنت عايز أسأل نفسي أنا مالي فعلًا؛ لكن الصوت اللي سألني السؤال ده باسمي الحقيقي مكانش صوتي، دا كان صوت الست اللي بتصرُخ وبعدها بتوصف واحد إنه ملعون.
الصوت كان بجد، مكانش تهيؤات ولا هلاوس، بدأت ألِف حوالين نفسي زي النَّحلة الخشب اللي بيلعب بيها طفل، وكل ما حركتي تزيد السؤال يرِن في ودني بصوت الست، بس الغريبة إني مكنتش سامعها بتصرخ وهي بتسأل، دي كانت بتضحك ضحكة عالية ومخيفة بترِن بين حيطان الأوضة، وفضلت على الحال ده لحد ما الدنيا دارت بيا، ومدريتش بنفسي غير وأنا بقع من طولي وراسي بتخبط في الأرض.
فتحت عيني على صوت خطوات ماشية جنبي، وبرغم إن نور الأوضة كان مفتوح لكن مكنتش شايف كويس، لأن الصداع كان قاتلني والرؤية كانت مشوَّشة قدامي من الخبطة، وبرغم كده كنت بلمح بُقَع لونها أحمر وسط الزغللة اللي قدامي.
سنَدت على دراعاتي وقومت بالعافية من الأرض، ولما وقفت الزغللة اللي في عيني بدأت تروح، وساعتها شوفت آثار رجلين على الأرض، بس الآثار كانت لونها أحمر، ولما قرَّبت منها وبدأت ألمسها بصوابعي، اتفاجأت إن دَه دَم!
زي ما بقول لكم كده، حد رجليه متلطخة دم كان ماشي في الأوضة، والآثار كانت عاملة دايرة حوالين المكان اللي كنتي واقع فيه، زي ما يكون الحَد ده كان بيلف حواليا وأنا فاقد الوعي!
في عز ذهولي نور الأوضة انطَفى؛ اترعبت من جوايا وأنا بدوَّر على تفسير للدنيا اللي اتقلبت فجأة أكتر ما هي مقلوبة معايا أصلًا؛ لكن كل التفكير طار من دماغي لما لقيت آثار الرجلين اللي في دايرة الدم اللي حوالين منّي بتنوَّر بتنور أحمر، زي ما يكون الدم بيحاول يظهِر نفسه من بين عتمة المكان.
كنت مبحلق في آثار الرجلين على الأرض وهي منوّرة بالأحمر، واللي بدأت تنوَّر في مكان وتنطفي في باقي الأماكن، وبين ثانية والتانية تنطفي في المكان اللي كانت منوَّرة فيه وتنتقل للمكان اللي بعده، الحكاية كانت أشبه بحد ماشي حواليا ومكان رجليه هو اللي بينوَّر، الخوف بدأ ياكل في جسمي أكتر، وخصوصًا لما سمعت صوت الست وهو بيتكلم بنبرة هادية وكلها برود وبتقول:
_ريحتك نفس ريحته، يااااه؛ قد إيه الدنيا دي ضيَّقة، زي الدايرة اللي بلف فيها حوالين منَّك دلوقت يا حسين، مكنتش فاكرة إن بعد السنين الطويلة دي إني أقابل حاجة من ريحته، تصحَّيني؛ وتصحَّي مرارة اللي شوفته على إيديه، لأ وإيه، في نفس المكان اللي كل حاجة حصلت فيه، عرفت بقى ليه كل ده بيحصل معاك؟
عيني كانت ماشية مع الأماكن اللي آثار الرجلين بتنوَّر فيها، حتى وأنا ببلع ريقي وبقول:
_أنا مش فاهم حاجة؛ أنتِ مين وحكايتك إيه؟
_الحكاية اتحَكت وخلصت من سنين طويلة يا حسين، أنا نفسي سيبت المكان ده بعد اللي حصل واستقرّيت في قبري؛ ومكنتش متوقعة إن ريحتك في المكان تخليني أرجع هنا بعد السنين دي كلها، أنت حتّة منه يا حسين؛ حتّة منه.
_مين ده اللي أنا حتة منه؟ وريحة إيه اللي بتتكلمي عنها؟ أنتِ مين ومستخبية فين؟ أنا مش فاهم حاجة!
ساعتها ضحكت ضحكة هزَّت حيطان الأوضة وقالت:
_أنا مش دوري أحكي الحكاية، الأموات مش بيحكوا حاجة يا حسين، بس ممكن يكون لهم دور تاني خالص، دور محدش من أهل الدنيا يعرف عنه حاجة، الانتقام يا حسين، زي ما أنت هربان من الانتقام؛ التَّار يعني، زي ما اللي عايشين بينتقموا؛ الأموات برضه أرواحهم بتنتقم وبتاخد بتارهم، دايرة الدم ساعتها بتكون كبيرة أوي يا حسين، أكبر من اللي بتكون عندكم وبتهربوا منها.
وبعدها الصوت ضحك ضحكة قصيرة كده وقال:
_والبركة في ريحتك؛ واللي هي هتكون حلقة الوصل بيني وبينه، روح للمعلم عباس وهو هيقول لَك، اسأله عن أمينة وهو هيفتكر كل حاجة
.
الصوت تلاشى والنور رجع، وساعتها كل حاجة اختفت، وبدون ما أحِس لقيت عيني رايحة ناحية رجل الكنبة، عند الحبل الغليظ، اللي لقيت عليه آثار صوابع فيها دَم، عرفت ساعتها إن الحكاية كبيرة؛ أكبر من إني أفسَّرها وأحاول أفِك شيفرتها؛ وطالما المعلم عباس يعرف الحكاية؛ ليه أغلِّب نفسي.
خرجت من الشقة وأخدت بعضي وروحت على القهوة اللي بيقعد عليها المعلم عباس؛ اللي أول ما شافني سحب نفس عميق من الشيشية اللي في إيده وبَص لي وقال:
_عامل إيه دلوقت يا حمدان؛ صحتك بُمب أهو، شكل دور البرد راح، ولا أنت مهلِّستش النهاردة.
عملت نفسي مسمعتش اللي قاله؛ شديت كرسي وقعدت جنبه وقولت له:
_في الحقيقة يا معلم مكانش عندي برد ولا حاجة، الحكاية إني من ساعة ما سكنت في الشقة دي وأنا مش مرتاح، وبسمع فيها أصوات.
ساعتها ساب الشيشية من إيده وبَص لي وهو بيقول:
_أصوات إيه اللي بتسمعها في الشقة يا حمدان؟
_ما أنا جاي على شان أفهم منك يا معلم.
_تفهم منّي إزاي؛ حد قال لك عني إني خبير أصوات؟
_أقصد يا معلم الشقة فيها حاجة مش طبيعية.
ساعتها مسك الشيشة تاني وسحب منها نفس وهو بيقول:
_قول كده بقى؛ حاجة مُش طبيعية آه، طبعًا هتدخل لي في جو العفاريت وإن الشقة مسكونة والكلام الحُمصاني ده، الشقة لا مسكونة ولا حاجة، وأجرتها قبل كده لناس اشتغلت معايا ومفيش واحد اشتكى منها، حتى بعد ما الملعون هوَّاري عمل فيها عملته السودة من سنين طويلة، ناس تبعي سكنوا فيها بعدها ومحدش اشتكى، اشمعنى أنت جاي تشتكي دلوقت.
_مين هوَّاري وإيه الحكاية يا معلم.
_مالوش لزوم يا حمدان، اللي فات مات؛ وأنا مبحبش أفتكر لأن لولا اللي أنا عملته مكانش العملة السودة دي حصلت.
لما لقيت المعلم مش عاوز يتكلم قولت أسأله بطريقة مباشرة؛ وده اللي خلاني أقول له:
_هي مين أمينة يا معلم؟
ساعتها وشُّه اتغيّر وملامحه جابت ألوان وقال:
_عرفت الاسم ده إزاي يا حمدان؟
_ما هو على شان تصدقني يا معلم وترسّيني على الحكاية؛ بقول لك الشقة فيها حاجة مش طبيعية.
_الحكاية كانت من سنين طويلة؛ لما دخل عليا واحد مبهدِل وطلب مني يشتغل نفَر معايا، شغَّلته وكسبت فيه ثواب، والأيام جابت بعضها ولقيته بيقول لي إنه عاوز يتجوز واحدة ست أرملة بس سنها صغيّر، اللي هي أمينة، مكانتش جميلة وده اللي خلى حالها واقف، سعيت في الموضوع وهي وما صدقت إن حد طلبها للجواز، وهو لما شاف الصيغة في إيدها مبصّش للجمال ولا اتكلم، وافق على طول، وأجرت له الشقة اللي أنت ساكن فيها دلوقت دي، واتفاجأت بعد شهر إنه اختفى، وأمينة كمان اختفت، قولنا أخدوا بعضهم وراحوا يعيشوا في مكان تاني، بس بعد كام يوم أهل المنطقة شمّوا ريحة جيفة طالعة من الشقة، ولما كسروا الباب لقوا أمينة متكتّفة ومربوطة من رقبتها في رجل الكنبة، متعذبة ووشها وجسمها كلهم جروح ومقتولة، الملعون هوَّاري أخد صيغتها وهرب، ومطلعش اسمه هواري ولاحاجة، كان ضارب بطاقة، وطلع أصلًا هربان من تار لأن الطمع عماه وحط إيده على أرض واحد من بلدهم، وعلى شان يخلص منه قتله، وبعدها الحكاية كبرت وهرب على هنا.
كنت بسمع الكلام وأنا حاسس بمرارة في ريقي، دا كأنه بيحكي حكايتي، ده اللي خلاني وقفت فجأة بدون ما أتكلم وأنا ببحلق في المعلم؛ لدرجة إنه شاور لي وقال لي:
_اقعد يا حمدان وقفت ليه؟
قعدت وأنا مبنطقش بكلمة، بس بعد ما كمل الحكاية سألته:
_وطلع مين الشخص ده يا معلم؟
_لما هرب نسي بطاقته الحقيقية في الشقة، وطلع اسمه عبد الرحيم القط، وهربان من تار عليه، ومن ساعتها محدش عرف عنه أي حاجة، تلاقيه راح الجبل مع المطاريد ولا غار في مصيبة تاخده، بس الحقوق مش بتروح؛ من قتَل يُقتل ولو بعد حين، هيروح من ربنا فين.
فضلت ساكت ومبنطقش بكلمة، لدرجة إن المعلم عباس قال لي:
_بالك أنت فيك شبه منه؛ لو شوفتك من ١٧ سنة كنت قولت إنه أنت!
مبقاش عندي شك إنه بيتكلم عن أبويا؛ وده اللي خلاني ساكت مش عارف أنطق وأنا بسمع للمعلم اللي بيكمل كلامه...
_ها.. هتنزل الشغل بكره ولا دور البرد لسه موجود ولا عندك حصة هلس بُكره ولا إيه حكايتك أنت كمان!
محاوبتش على سؤاله، كل اللي عملته هو إني طِرت من المكان، زقيت الكرسي ومشيت من قدام القهوة، معرفش ليه كان جاي في بالي أرجع البلد، أخدت بعضي وطلعت على المحطة وركبت القَطر، كان في هاتف في دماغي بيكلمني وبيطلب منّي أرجع، والغريبة إن الهاتف ده كان بصوت أمينة.
رغم خوفي من الرجوع والتار؛ وإني أروح تمن حاجة أبويا عملها بسبب الطمع بتاعه؛ أو بعد اللي عرفته النهاردة أقدر أقول الحاجات اللي الطمع خلاه يعملها، لكن لقيت نفسي بعمل اللي صوت أمينة بيطلبه منّي، فضلت طول الطريق أفتكر في كلامها معايا وكلام المعلم عباس، وافتكرت لما روحها قالت لي ريحتك نفس ريحته، قد إيه الدنيا ضيقة فعلًا؛ لدرجة إن القَدر يودّيك لمكان عمرك ما فكرت فيه على شان تشوف حقيقة مكنتش تعرف عنها حاجة، بس حقيقة شقّتني نُصين، خلتني ألعَن الطَمع والفلوس والأرض وكل حاجة الطمع يخليك تاخدها بدون وجه حق، لأن الطمع هلاك، والتار نار والناس الحطب بتاعها، ولما بتولع مش بتنطفي غير لما تاكل الحطب كله.
لما قربت أوصل لفيت الكوفية على وشي، القطر وقف في محطة البلد عندنا وإحنا في نُص الليل، أخدت بعضي وطلعت على بيتنا، كنت كل كام خطوة بمشيها بستخبى شوية على شان محدش يلمحني؛ لحد ما وصلت لبيتنا؛ خبطت على الباب لحد ما أمي فتحت، اللي أول ما شافتني بصَّت في الشارع يمين وشمال تشوف حد شايفني ولا لأ، وبعدها دخلت البيت وقفلت الباب ورايا، وكل اللي على لسان أمي:
_رجعت ليه يا ولدي؛ بيدوَّرا عليك، هيقتلوك.
في اللحظة دي سمعنا صوت عيار نار في أرض القصب اللي جنبنا؛ أمي خبطت على صدرها وهي بتقول بصوت مخضوض:
_عرفوا إنك هنا، هيقتلوك يا ولدي.
قعدت على الكنبة وأنا مش عارف أتكلم كلمتين على بعض، ولا عارف أقول عن السبب اللي خلاني أرجع للنار برجلي، ومفيش ربع ساعة، سمعنا دوشة برَّه عند البيت، ناس كتير متجمعة والدنيا مقلوبة، وسمعنا صوت واحد بيزعق عند باب البيت وبيقول:
_عبد الرحيم القُط اتقتل!
طبعًا أنتوا مستغربين الحكاية؛ لكن أنا معدتش بستغرب حاجة، أصل بعد الدفنة عرفنا إن أبويا ليلتها حاول يدخل البلد وهو متخفّي، زي ما يكون بيشوف الأخبار إيه، أو بيحاول يعرف أهل القتيل أخدوا تارهم من حد غيره ولا لأ، وكانت نتيجة ده إن واحد من أهل القتيل شافه وقتله في أراضي القصب اللي قريبة من بيتنا.
ساعتها بس قدرت أظهر في البلد وأنا مش خايف، لأن التَّار اتّاخد خلاص، حتى بعد أسبوع من الدفنة لما لقيت أمي بتطلب منّي آخد تار أبويا على شان راسنا تبقى مرفوعة رفضت؛ لأن الدم مبيرفعش راس، كل عملية قتل بتبقى دايرة دم بتفضل تكبر لحد ما تبلع كل اللي في طريقها، وكان لازم أرجع جامعتي وماخدش تار أبويا لأن ده العدل، هو الطمع زمان خلاه يقتل، ومن قَتَل يُقتل، دا غير العدل الأكبر اللي حصل، وعقابه على اللي عمله في أمينة، واللي خلاه يرجع لقدَرُه برجليه بعد ١٧ سنة محدش يعرف له طريق، أما أنا كنت عارف سبب رجوعه بس مش قادر أقوله؛ أمينة، اللي روحها أكيد استدرجته على شان ياخد عقابه قدامي زي ما الحكاية اللي محدش هنا يعرفها اتحَكَت قدامي برضه، وبعد ما عرفه إنها كانت تقصد إن الملعون ده هو أبويا؛ ودي حاجة كنت متأكد منها، زي ما أنا متأكد إني حسين، مُش حمدان اللي هرب من حاجة مالوش يَد فيها.