وهناك فرق..
1ــ في صلاة القيام أول من أمس قرأ الإمام الآية السابعة من سورة آل عمران وفيها يقول الحق: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}.
2ــ ولقد حاولت التوقف عند معنى الرسوخ في العلم في هذه الآية؛ غير أني انشغلت بعوارض الحياة وطوارئها، مع علمي أن هذا الرسوخ لم يذكر إلا في موضعين فقط في الكتاب العزيز.
3ــ اليوم قرأ الإمام نفسه بصوته الشجي الندي الآية 162 من سورة النساء وفيها حديث السماء عن الرسوخ الثاني والأخير بالقرآن الكريم، فيقول الواحد الأحد: {لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.
4ــ والحديث هنا في هذه الآية جاء بعد سياق مطول ومفصل عن صفات اليهود الذين كذبوا عبد الله ونبيه عيسى بن مريم، وهم الذين قالوا إنهم قتلوه وصلوبه، لكن الحقيقة القرآنية والتاريخية الثابتة أنهم ما قتلوه وما صلبوه، ولكن كل ما حدث أنهم شبه لهم شخص المسيح بشخص آخر، إلى آخر القصة المتواترة والمعروفة.
5ــ والذي جعلني أتوقف هذه الليلة ــ متأملا ودارسا ومتعلما ــ عند معنى الرسوخ في هذين الموضعين الشريفين من التنزيل الحكيم، هو أن الله تعالى لم يقل العلماء ولم يقل الذين تعلموا وإنما قال الراسخون في العلم؛ ما يعني أن مراده تعالى من هذا الرسوخ ليس مجرد تعلم العلم بل أمر آخر أخلاقي بحت وسلوكي بحث، أكثر منه علمي بحت أو أكاديمي بحت.
6ــ ولقد وجدت اتفاقا بين المفسرين وأهل العلم على أن معنى الرسوخ هنا هو الثبات على الحق، مهما كانت الأهواء والمصالح الدنيوية، ومجاهدة النفس التي تميل إلى الهوى مع علمها بالحقائق المجردة.
7ــ طبعا ينسحب هذا المعنى على القضايا الكبرى مثل وجود الله ومثل الإيمان بالأنبياء، كما ينسحب أيضا على القضايا الفرعية المتعلقة بالمصالح الشخصية الدنيوية الزائلة الفانية لمن تعلم وعرف العلم، ونضع هنا تحت مسألة "المصالح الشخصية" ألف خط.
8ــ ثم وجدت على قناتي بموقع يوتيوب المقطع المرفق (الرابط في أول تعليق) لأستاذي وشيخي الجليل الدكتور سعد بدير الحلواني في لحظة النطق بالحكم على رسالتي لنيل درجة العالِمية "الدكتوراة" في تخصص لا يعلم صعوبته وتعقيده وما به من تناقضات إلا الله.
9ــ فتح العالم الجليل الدكتور الحلواني لحظة النطق بالحكم على الرسالة بالآية الحادية عشرة من سورة المجادلة وفيها يقول ملك الملوك: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العلم دَرَجَاتٍ}.
10ــ لا أعرف على وجه اليقين ما الذي جعلني أربط بين تزامن تفكيري في مسألة الرسوخ في العلم، وبين عثوري على هذا المقطع الذي يعود إلى ثلاثة أعوام خلت، وفيه الآية الكريمة التي تلاها أستاذي الدكتور سعد الحلواني.
11ــ ثم خطر ببالي أنه ــ أي الدكتور الحلواني ــ أكثر العارفين بأهواء الناس التي كادت تعصف بي في تخصصي، وفي مجال عملي، وفي مراحل طلبي الرسوخ في العلم، وفي مراحل جمعي المادة العلمية لهذه الرسالة وما دار قبلها وما دار بعدها.
12ــ وهو يعرف ــ أي الدكتور الحلواني ــ تمام المعرفة أن ابنه وتلميذه لم يكن يبغي مجرد العلم بل كان يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك وهو الرسوخ في العلم، بحيث يتسامى على الأهواء، ويعوذ بالله من أن يفعل مثل الذين انحازوا إلى هواهم طعنا في علم فلان وسلبا من سمعة فلان، مع علمهم بأن ما قالوه يجافي الحقيقة التي خبروها أكثر مِن مَن سواهم.
13ــ إنني هنا في لحظة تدبر وتأمل لمراد المولى من كلماته العزيزة في كتابه الحكيم وهو الذي قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، لكني لا أحب أن أفوت اللحظة من دون الإعلان عن الامتنان والشعور بالعرفان لرجل أحبني وعلمني من علمه وأكرمني من ماله، ولم يكن بالوقت والجهد والنفع والدرس بضنين، وقاتل عني تماما كما يقاتل الوالد عن ابنه أمام المستذئبين من البشر والسباع والضباع من الآدميين.