ذهبت أول أمس الجمعة إلى انتخابات نقابة الصحفيين تلك المهنة التي أحببتها وأعطيتها كل شيء ولم آخذ منها إلا القليل، والقليل جدا، وهذا ليس حالي فقط، بل حال أغلب أبناء تلك المهنة الشاقة والجليلة على مر العصور. ظننت أن ابتعادي في السنوات الخمس الأخيرات عن الصحافة وتفرغي للعمل البحثي أنساني زملائي ونسوني بطبيعة الحال؛ غير أنني فوجئت بقدر رهيب من المحبة والتحيات والسلامات من زملاء أعرف بعضهم ولا أعرف أغلبهم، وكلهم يرحبون ويصافحون ويقبلون ويعانقون.. في هذه الجمعة استرجعت ٢٢ عاما من العمل في الصحافة كشريط سينمائي يمر من أمام عيني.. كلما رأيت أحدا من الزملاء الذين عملت معهم في الـ٣٥ صحيفة المسجلة في سيرتي الذاتية.. تذكرت أول حزمة ورق دشت اشتريتها للكتابة وقت أيام الأحلام الأولى.. وأول موضوع كتبته ورماه رئيس القسم أمامي في سلة المهملات.. وأول تحقيق كتبته وأخذه رئيس الديسك ونشره وكتب عليه اسم زميل يكبرني بعشر سنوات.. تذكرت أول مرة أدخل المطبعة وأشم رائحة الحبر والورق.. وأول مرة أسهر حتى الصباح في ليلة التنفيذ.. تذكرت أول مرة أكتب فيها موضوعا على جهاز الكمبيوتر وأول مرة أكتب على الموبايل.. قَبٌَلتُ وقُبلت وعانقت وعونقت بعدد قياسي، لم يحدث في حياتي ولا حتى في يوم حفل زفافي ولا يوم حصولي على الماجستير والدكتوراة.. تعجبت لحال هذه المهنة الساحرة التي يحبها أبناؤها رغم مشقتها ومعاناتهم في تكبد صعابها ومواجهة أمواجها العاتية مرة بالتغاضي والمرونة ومرات بالثورة والجنوح.. وخرجت بقناعتين: الأولى أن هناك رغبة جامحة لدى الأجيال المتعاقبة في إثبات الذات، والثانية أن العمل الجاد التراكمي لا يضيع هباء، وأنا الذي كنت أقول في نفسي: وما الفائدة من كتابة الأبحاث والتحليلات في مراكز الفكر والدراسات ثم كتابة المنشورات ومحاولة المشاركة في توعية الناس على منصات التواصل الاجتماعية؟! وما هي إيران التي تصدع بها دماغك يا محمد وتصدع بها أدمغة الناس؟! اتضح لي أن هذا العمر الذي أفنيته بثبات وإيمان في أمر أحبه وأعشقه لم يذهب سدىً، وفطنت إلى المعنى العميق في قوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}.. صدق الله العظيم.. أشكر زملائي الذين قابلتهم في تلك الجمعة.. الذين أعرفهم والذين لم أكن قد تشرفت بمعرفتهم، أشكر الله على أن هدانا للثبات على حب الصحافة، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.