حكاية 2000 جنيه تروى للمرة الأولى عن محمود سعد وزوجته نجلاء بدير وفك شفرة حديثه المتكرر عن والده
1ــ طالعت قبل أيام مقالات ومنشورات لبعض الأساتذة انتقادا منهم لحديث الكاتب والإعلامي الكبير الأستاذ محمود سعد عن والده، وإحساسه الدائم بالغصة من هذا الرجل الذي كان أحد أعيان حوش عيسى في محافظة البحيرة؛ لكنه كان منقطعا عن الأسرة ولا ينفق عليها برغم غناه وثراه.
2ــ ولقد تزامنت تلك الحملة ــ غير المقصودة طبعا وغير الموجهة ــ على محمود سعد مع حلول الذكرى السادسة عشرة لرحيل الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ عادل عبد المنعم الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم 14 سبتمبر 2008م، وهو الذي ــ للمفارقة ــ وافق 14 من شهر رمضان لعام 1429 هــ.
3ــ ولأنني عرفت الأستاذ محمود سعد عن قرب معرفة وثيقة سواء في تجربة رئاسته تحرير مجلة الكواكب أو تجربة عمله مقدما لبرنامج البيت بيتك في التلفزيون المصري أو حتى في فترة إدارته مكتب مجلة لها التابعة لصحيفة الحياة اللندنية في القاهرة، فإنني أعرف سبب حديثه الدائم عن أبيه، وأجدني ممسكا حقيقة تحليل أسباب أحاديثه المتكرره عن هذا الـ"سعد بك".
4ــ لقد رأيت محمود سعد على طبيعته ــ التي هي حقيقة شخصيته وسجيته وفطرته ــ في مجلة الكواكب بدار الهلال وهي تجربة تستحق أن أفرد لها منشورا خاصا فيما بعد، ورأيته في مجلة لها وهو يدير المكتب مرتديا "تريننج سوت" ورأيته أبا حقيقيا لكل الذين يعملون معه، وقبل ذلك لمست أبوته الصادقة في حكاية وفاة الأستاذ عادل عبد المنعم التي سأرويها فورا.
5ــ قبيل وفاة الأستاذ عادل عبد المنعم بعدة أشهر كنت أقرب الناس إليه، أقابله في الصباح الباكر بمنطقة الطالبية في حي فيصل حيث يقيم ولا أفارقه إلا عند منتصف الليل، وفي ذلك الوقت من شتاء وربيع وصيف وخريف العام 2008م، كنت أعمل محررا عاما لأسبوعية "اقتصاد الغد" التي يرأس تحريرها، وفي تلك الشهور حكى لي كل شيء عن حياتيه الشخصية والمهنية وكنت مخزن أسراره والإنسان الأقرب إليه على الإطلاق، نأكل معا ونشرب معا ونشتري الملابس معا ونعمل في الصحيفة معا ونجلس في الطابق الثامن بنقابة الصحفيين معا، وهكذا أمضيت معه الشهور الأخيرة من وفاته لصيقا به ابنا وصديقا كأخلص وأنزه ما يكون الأبناء والأصدقاء.
6ــ حتى اقترب شهر رمضان وطلبت منه أن أحصل على إجازة وأذهب كالعادة إلى بني سويف للإفطار أول يوم مع أسرتي، ووافق بصعوبة على منحي هذه الإجازة؛ إذ كان يريدني أن أتناول معه ومع أطفاله ــ الذين تغيبت والدتهم ــ إفطار أول يوم في رمضان، وبالفعل أعددت عدتي وحجزت تذكرة القطار من الطابق الأول بنقابة الصحفيين، لكن المفاجأة أنه اتصل بي ليلة الأول من رمضان وبدا صوته متهدجا مضطربا، وقال لي: "تعالا يا محمد حالا انقلني للمستشفى".
7ــ كان المرحوم يظنني في شقتي، وفي ذلك الوقت كنت أسكن في شقة بحي المساحة بشارع الهرم وهو شارع أحمد لطفي السيد المقابل لسينما رادوبيس، غير أني كنت في زيارة لأقاربي بعيدا في حي مصر الجديدة وأخبرته بذلك، لكني تركت السحور عند أقاربي وأسرعت إلى الهرم، وعندما اقتربت من ميدان الجيزة في حدود منتصف الليل اتصلت على هاتفه فرد علي ابنه الكبير أحمد الذي كان في الصف الأول الثانوي وأخبرني أن والده في مستشفى الهرم الواقع في منطقة المريوطية.
8ــ اتصلت بالنقابة والزملاء الكبار الذين كان مقربا منهم وكانوا مقربين منه وهم الأستاذ محمد أبو لواية والأستاذ سليم عزوز والأستاذة نور الهدى زكي، وقامت النقابة بكل اللازم وقام كل الزملاء الأفاضل بتسهيل إجراءت نقله إلى أحد أكبر وأفضل الأجنحة الفندقية الفاخرة في المستشفى على نفقة مشروع العلاج بالنقابة، وعند فراشه أشار لي أن أقترب منه، فاقتربت منه؛ فأمسك يدي وقال لي: "علشان خاطري خليك معايا يا محمد ما تسافرش.. ولادي صغيرين وأنت ابني زي أحمد تمام.. عاوزك تراعيني وتراعي ولادي". قلت: "يا ريس أنا أصلا مش هسيبك ولو لحظة واحدة".
9ـ وقد ساعدت إدارة المستشفى على إقامتي معه، إذ وفرت لي كرسيا يمكن فرده ليصبح سريرا وثيرا وقت الليل، وفي الصباح يعود السرير إلى وضع الكرسي، وهكذا كل ليلة، ثم هكذا أمضيت معه في هذا المستشفى أسبوعين من ليلة الأول من رمضان حتى رحل عن عالمنا في منتصف الشهر الفضيل، ويسر الله لنا وقمنا بتغسيله وتكفينه ووضعه في مثواه الأخير بمنطقة الخانكة التي هي مسقط رأسه ومستقر عائلته، عند الله الرحمن الرحيم به من المرض العضال الذي ساد جسده تماما من رأسه حتى أسفل قدميه.
10ــ ثم وجدتني بعد عدة أيام أتلقى اتصالا من رقم هاتف لا أعرفه، وكان المتصل هي الكاتبة الكبيرة الأستاذة نجلاء بدير زوجة الأستاذ محمود سعد، وقالت لي بالحرف الواحد: "إزيك يا محمد، أنا عرفت من نور (تقصد الأستاذة نور الهدى زكي) إنك أقرب واحد للمرحوم.. ممكن نتقابل دلوقتي؟ يناسبك نتقابل إمتى في النقابة؟". قلت: "أنا في النقابة بالفعل الآن".
11ــ وبعد دقائق التقينا في الطابق الأول وجلسنا على الكراسي الجلدية سماوية اللون المقابلة لمكاتب الموظفين، ثم بعد قليل من التعارف وقد كان هذا أول وآخر لقاء بيننا، أخرجت من حقيبتها داكنة اللون مظروفا ممتلئا بورقات من فئة 100 جنيه. وقالت: "محمود (تقصد زوجها) سمع قصة عادل وهو يريد أن يعطيك هذا المظروف وفيه 2000 جنيه لإنفاقها على أطفال المرحوم خاصة أن العيد قد اقترب وهم بحاجة إلى ملابس للعيد وألعاب وخلافه".
12ــ فوجئت نجلاء بدير بأني نهضت من مقعدي وقلت لها بعبارات هادئة وصارمة في آن معا، أولا: الأطفال لهم أهل، وهم من أسرة كبيرة ومرموقة، وعمهم العقيد زكي عبد المنعم على تواصل دائم معي وقد تكفل بهم جميعا. ثانيا: أنا لا أتلقى أي أموال في يدي لأني لا أدخل نفسي في أي موطن من مواطن الشبهات والقيل والقال، ثالثا: لا تقلقي فالنقابة والأستاذ إبراهيم حجازي وزملاء المرحوم وأهل الأطفال قاموا بكل اللازم.
13ــ أمسكتني نجلاء بدير من يدي وجذبتني بشدة حتى أجلستني، وقالت لي: "يا محمد أنا عرفت من نور إنك من عائلة معروفة ومحترمة وأنت زي بنتي ولا أثق في أحد غيرك لتحمُل أمانة التصرف في هذا المبلغ".
14ــ ولقد كان هذا المبلغ في ذلك الوقت كبيرا وكافيا لشراء ملابس العيد لأربعة أطفال، غير أني اقترحت عليها أن تتفضل هي بشراء الهدايا للأطفال والملابس والألعاب وخلافه على أن أستلمها منها وأسلمها للعقيد زكي شقيق المرحوم الذي كان متكفلا في هذا الوقت بالأطفال، وهو ما تم بالفعل، ثم ظللت على تواصل مستمر مع أبناء المرحوم الأستاذ عادل عبد المنعم حتى الآن، وهم الذين أعاد الله إليهم أفضال أبيهم على الناس، وكبروا وتزوجوا ونجحوا في حيواتهم وكونوا أسرا طيبة كمثل طيبة والدهم، وطاهرة كمثل طهارة أحد أنقى الرجال الأبرار الذين عرفتهم في حياتي.
15ــ حكيت تلك القصة للمرة الأولى برغم مرور 16 عاما على وقوعها؛ لأنني أعرف النزعة الأبوية عند محمود سعد، فهو رجل فقد والده وهو طفل يحبو في شوارع حي باب الخلق وكان أمام مصيرين، إما أن يصبح جافا غليظا قاسي القلب عنيفا جاحدا كأغلب الوحوش البشرية الذين يقابلهم المرء يوميا في حياته، والحمد لله أنه لم يكن، أو أن يصبح رجلا رحيما عطوفا كريما بشوشا أبا لكل أولاد يعرفهم يرى في عيونهم ما كان يريد أن يراه في نفسه من أبيه، وقد كان.
والحمد لله رب العالمين.