ودّعتُ اليومَ عامي التاسع والثلاثين وأستذكرُ بصمت قدوم عامي الأربعين ــ وفقا للتقويم الميلادي وتلك قصة أخرى ــ ذلك الذي أخطو إلى أولى عتباته مُحَمَّلا بكثير من فضل الله وستره وكرمه وعطاياه.
وهذه المرة أستذكر ولا أحتفل؛ لأن أمتنا تمر بواحدة من أقسى مراحل تاريخها وقد تبعثر الدم على أريكتها واستحالت الأريكة إلى كومة من الدمار تحيط بها رائحة الموت من كل مكان.
ثم إنني اعتدت في مثل هذا اليوم من كل عام أن أطرح منظوري نحو هذا العالم المُحَيِّر والمجنون والمفعم بالغرابة والدهشة على حدٍ سواء.
وشغل بالي وجال بخاطري آلاف الأفكار ورؤوس الموضوعات عبر هذه الشهور الاثني عشر المنقضية.
لكن أكثر ما شغلني في هذا العام وسط الانشغالات اليومية في أمور العمل والمنزل ووسط أمواج السياسة العاتية وأنا أشاهد ما يحدث في العالم وكأنه صراع بين حيتان هائجة في القلب من محيط حولته بعنفها وما أسفر عنه من جراح إلى كتلة شاسعة من الدماء، أمران سأتعرض لهما باختصار حتى لا أضيع على نفسي مزية محبة أصدقائي وصبرهم على إطالة تتبع السطور وهم الذين يقرأون لي هنا على هذه المنصة وهم مشغولون باحتفالات العام الجديد وتذوق حلواه والتجهز لمآسيه.
***
(1)
الفارق بين عمر الإنسان على تقويمين يعمل بهما
هنا سأبدأ مباشرة في طرح فكرتي.
بما أننا في مصر وهي بلد عربي إسلامي وعصري يعمل بالتقويم الميلادي وهو بحكم انتمائه إلى محيطه الإسلامي وبحكم المادة الثانية من دستوره يعترف كذلك ويعمل بالتقويم الهجري؛ فإن التقويمين مهمان في ذاكرتنا جميعا وفي تكوين معارفنا عن أنفسنا وعن ما يدور حولنا.
ونحن في القلب مما يدور ومما يحدث.
وقد تذكرت مثلا أننا في كل مراحل تعليمنا كان أساتذتنا في المدارس يكتبون أعلى كل سبورة في أقصى اليسار التاريخ الهجري بينما يكتبون التاريخ الميلادي في أقصى اليمين وذلك طبعا في كل فصل وفي كل مدرسة.
إذن نحن ملتزمين بالتاريخين؛ لكن المعضلة أن هناك فارقا بين التقويمين وبين كل تقويم كما سأوضح ذلك حالا.
على سبيل المثال: في محاضرات الشؤون الإيرانية أول أمر أوضحه لطلابي أن هناك فارقا بين التقويم الميلادي وبين التقويم الهجري الشمسي الفارسي المعمول به في إيران من حيث عدد السنوات نفسها في قلب هذا التقويم.
وشرحت لهم طريقة بسيطة لحل ألغاز التقويم الفارسي.
وقلت لهم مرارا على تتابع الأجيال وتنوع المستويات:
إن الفارق في السنين بين التقويمين هو 622 عاما تقريبا.
وهي طريقة سهلة لتحويل التواريخ بين التقويمين.
على سبيل المثال:
إذا كنتَ تقرأ في كتاب عن تاريخ إيران ووجدت مثلا أن الثورة الإيرانية قامت عام 1357هــ. ش. فكل ما عليك فعله أن تضيف إلى هذا التاريخ رقم 622؛ لتحصل على التاريخ الميلادي.
هكذا بكل بساطة.
وهنا تكون المعادلة سهلة: 1357 هــ. ش. + 622 = 1979م.
وعلى هذا النحو تعرف يا عزيزي أن الثورة الإيرانية قامت عام 1979 وفقا للتقويم الميلادي.
على كل حال
أنا رجل وُلِدَ في مدينة بني سويف (120 كم إلى الجنوب من القاهرة) يوم الثلاثاء 1 يناير عام 1985م الموافق 9 ربيع الآخر عام 1405هـ، وبما أن اليوم الإثنين 1 يناير 2024، يوافق 19 جمادى الآخرة 1445هـ، فمعنى ذلك أنني أكلمت أربعين عاما وسبعين يوما بالتمام والكمال على تقويم هجرة الرسول محمد ﷺ.
وإذا عَرَفتُ أن عدد أيام السنة الميلادية هو 365 يومًا، بينما يبلغ عدد أيام السنة الهجرية 354 يومًا، فإن الفارق بين التاريخين الهجري والميلادي بالأيام يبلغ ما يُقارب أحد عشر يومًا.
وإذا كان ذلك صحيحا ــ وهو صحيح بالفعل ــ فإن كل عام من أعمارنا ــ ومن عمري بطبيعة الحال ــ فيه 11 يوما إما خصما في العام الميلادي أو زيادة في العام الهجري، وهو ما يعني أن لي عمرين وزمنين وكذلك كل واحد منا له عمران وزمنان.
عمر على تقويم هجرة الرسول الكريم محمد ﷺ.
وعمر على التقويم الميلادي غربيا كان أم سريانيا.
وإذا جمعتُ هذه الأيام الأحد عشر في سنواتي الأربعين الماضية على التقويم الميلادي فهي تعني أن لدي 440 يوما إضافيا على التقويم الهجري، وهو ما يعني أن لدي عاما وشهرين إضافيين فوق عمري الميلادي.
هنا أتذكر أننا درسنا وقرأنا جميعا في كتب السيرة النبوية أن الرسول ﷺ ولد في عام الفيل نحو 53 قبل الهجرة ولقي ربه بعد أن بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة عام 11 للهجرة، وبالتالي فإنه مات عن 64 عاما تقريبا.
لكن العجب بالنسبة لي عندما كبرت وقرأت تاريخه في كتب المؤرخين الغربيين أنه ﷺ مات ابن 61 عاما تقريبا؛ لأنه ولد في شهر إبريل من عام 571م وتوفي في شهر يونيو من عام 632م.
وهكذا اتضح لي السبب:
الرسول ﷺ مات ابن 64 عاما على التقويم الهجري العربي.
ومات ابن 61 عاما على التقويم الميلادي.
وهناك نحو 3 أعوام مفقودة في تاريخه الميلاده و3 أعوام مضافة في تاريخه الهجري.
وهكذا أنا وهكذا كل واحد منا له عمران أو عدة أعمار وفق كل تقويم من التقاويم المتباينة المعمول بها في الثقافات والحضارات.
***
(2)
الكتابة الممتنعة لدى والدي السيد/ محسن أبو النور
برغم أن عام 2023 كان أحد أحلك الأعوام في حياتي؛ ففيه لم أبرح مكاني ككل عام، ولم أر السحاب على ارتفاع 40 ألف قدم ككل عام، ولم أقدم شيئا جديدا يرضيني ككل عام، اللهم إلا بعض الأعمال الروتينية التي بدأت بها العام وبها أنهيته، إلا أن نقاطا مضيئة تخللته ومنها لقائي بأستاذ الجغرافيا المعروف في جامعة القاهرة الدكتور عاطف معتمد.
ولا أعرف ما إذا كانت علاقتي به قد توطدت إلى درجة الصداقة أم أن الأمر ما يزال بعدُ في طور التشكل والتعارف.
في هذا العام التقيت بالدكتور عاطف وجلسنا سويا نحو 180 دقيقة.
والدكتور عاطف معتمد هو أستاذ جامعي ومثقف موسوعي بحق شغل منصب المستشار الثقافي بالسفارة المصرية في العاصمة الروسية موسكو وقد جاب نصف الكرة الأرضية بحثا عن المعلومة وشغفا بالمعرفة.
وبعد أن غاص في كل تلك البحور يخرج على محبيه كل صباح بما يجده من الدرر.
تم اللقاء في ليلة شديدة الحرارة والرطوبة من شهر يوليو وهي الليلة الفارقة بين مداري برجي السرطان والأسد.
في بداية هذه الدقائق المائة والثمانين سألني عن عمري.
وقد بادرته متسائلا: أتريد أن تعرف عمري على التقويم الميلادي أم على التقويم الهجري؟!
بذكائه الحاد وألمعيته المعروفة، ردا ضاحا وكأنه فطن إلى مرادي من التساؤل، وهو أنني أهرب إلى الأمام وأريد أن أقول عمري على التقويم الهجري وبه أبدو رجلا أربعينيًا بلغت أشدي واستويت.
لكنه قال: لا، أريد عمرك على التقويم الميلادي.
قلت: أسير في النصف الثاني من عامي التاسع والثلاثين.
وتحدثنا كثيرا عن كل شيء.. عن جغرافيا إيران وعن التاريخ الإنساني والسياسة والاجتماع، ولكم وددت أن تطول تلك الجلسة إلى ساعات أخرى كما أفعل مع أصدقاء آخرين.
ومن عجبٍ في حياتي أن كل أصدقائي يكبرونني عمرا بنحو 10 سنوات على الأقل.
مثلا: تربطني علاقة صداقة وطيدة بالفقيه اللغوي والمذيع المعروف الدكتور خالد عاشور وتطول جلساتنا مثل دوام عمل كامل.
مثلا: أذهب إليه في نادي المعادي عند الساعة الرابعة عصرا وتستمر الجلسة حتى الواحدة صباحا.
وتربطني علاقة صداقة وطيدة بالأستاذ سامح راشد الباحث والخبير المعروف في مركز الأهرام للدراسات.
أذهب إليه في نادي الصيد فنجلس من الحادية عشرة صباحا حتى الحادية عشرة ليلا.
وأذهب إليه ونصلي العشا معا ونجلس للحديث حتى نصلي الفجر معا.
وكلاهما يكبراني بنحو عشر سنوات على الأقل.
وغير ذلك كثير من علاقات الصداقة التي تستمر الجلسات فيها لساعات طوال تتخللها المأكولات والمشروبات.
الشاهد هنا ــ وما لا يعرفه الدكتور عاطف والذي لم أخبره به ــ أنه يشبه المرحوم والدي السيد/ محسن أبو النور.
يشبهه في اتساع دائرة اهتماماته في المعرفة والمطالعة وآداب الأمم والشعوب.
لكن الفارق بين الرجلين أن الدكتور عاطف يكتب دائما ويترجم وينشر نتاج فكره إلى الناس، بينما اكتفى والدي الذي عمل معلما لمادة التاريخ والجغرافيا بأن يقرأ فقط.
عندما كنت صغيرا لا أذكر مرة أنني رأيته من دون كتاب أو مطبوعة يقرأ فيها واضعا نظارته غليظة العدسات فوق أنفه وأمام عينيه بعد أن بدأ النظر في الانسحاب من حبيبتيه.
وحتى عندما كبرت وعملت في القاهرة اتصل بي ذات صباح وطلب مني أن أذهب إلى أفضل مكتبة وأشتري له عدسة مكبرة جدا تساعده على فك طلاسم الحروف والسطور التي بدت أمامه مستحيلة بعد أن سال ماء العين على الصفحات وانسكب عبر سنين عمره الذي أفناه بحثا وقراءة ومطالعة.
كبرت وعَرَفْتُ أن والدي أوتي موهبة عظمى في الكتابة لو كان ترك التدريس في مدارس وزارة التربية والتعليم وعمل في الصحافة لأصبح بسهولة من كبار الكتاب والمفكرين في تاريخنا.
كانت له قدرة على سيولة الكتابة الجزيلة القوية والرشيقة والمفعمة بالعواطف بشكل لم أجده إلا عند المرحومين الأستاذ صلاح عيسى والأستاذ محمود عوض.
ومن العجائب أنه كان ينتمي عمرا إلى جيل الرجلين، لأن الأستاذ صلاح عيسى كان يكبره بنحو 6 سنوات والأستاذ محمود عوض كان يكبره بنحو 3 سنوات.
قرأ والدي واقتني نحو 5 آلاف كتاب ولم يكتب أبدا إلا بعض الخطابات والمراسلات إلى أقاربنا الذين هاجروا خارج البلاد أو إلى أصدقائه الذي ذهبوا في إعارات عمل إلى دول الخليج العربي.
أذكر مثلا أن صديقه الأقرب في سنوات طفولتي كان "عمو عاطف" وهو الذي كان معارا للعمل في إحدى مدارس المملكة العربية السعودية.
وكان يكتب له المراسلات فيقع الخطاب في نحو 30 ورقة فلوسكاب من الحجم الكبير يكتب في وجهي كل ورقة.
وكان "عمو عاطف" يداعبه في الإجازات السنوية الصيفية، قائلا: "والله يا أستاذ محسن (كتبك) إللي بتبعتهالي هي إللي كانت مصبراني على الغربة".
ويضحك عمو عاطف ويضحك السيد والدي ويضحك كل الحضور.
وقد وقع في يدي ذات مرة أحد هذه الخطابات التي ضلت طريقها في البريد إلى صاحبها وعادت إلى منزلنا، وقرأت هذا الخطاب عندما كبرت وهالتني قدرة والدي على التعبير عن شوقه إلى صديقه وشعوره بالفراغ بعد غيابه إلى الإعارة.
كان الخطاب عبارة عن سبيكة من الذهب الخالص في البلاغة وأدب الصداقة وحفظ العهد وصون المحبة.
يا الله.
دخلت عليه حجرة مكتبه ذات مساء وأنا ابن عشرة أعوام تقريبا في حدود عام 1995م، وكان يقرأ كتاب "صفحات من تجربتي" لرجل المقاولون العرب الأشهر، عثمان أحمد عثمان.
وقد انتقل هذا الكتاب ضمن مكتبة والدي إلي، بعد أن عهد لي في حياته، وأمام كل أشقائي، بأن أرث منفردا مكتبته، وقد فعلت.
وأحمد الله على هذا العهد.
قلت: لماذا لا تكتب مقالات يا أبي وترسلها إلى الصحف.
قال: بينما يجلس على أريكته المفضلة المكسوة بالقطيفة القانية اللون والمحشوة بالإسفنج الوثير: ناولني يا محمد ذلك الكتاب الأبيض في منتصف الرف الرابع من المكتبة، وأتيت له بالكتاب فإذا هو "بين الصحافة والسياسة" للأستاذ محمد حسنين هيكل وأطلعني على قولته الأثيرة في الصفحة الثامنة من تلك الأعجوبة الصحفية: "إن الأنظمة السياسية إذا عجزت عن تطويع إرادة الناس بالكلام تولى السلاح مهمة إخضاعهم بالنار".
وأنا لا أريد أن يكون قلمي بديلا ناعما للسلاح.
ثم قال لي: الغريب في دنيانا أن هناك صنفا من البشر فرض علينا عبر العصور منذ عهود الفراعنة وحتى الآن أن ينقسم المجتمع إلى قسمين: أقلية تكتب وأكثرية تقرأ.
وتفرض الأقلية على الأكثرية رأيها.
والشعوب في إدراك هؤلاء المتسلطين خُلِقَتْ لتقرأ وتسمع لا لتتكلم أو لتكتب.
وهؤلاء ستقابلهم في حياتك إذا قررت احتراف الكتابة؛ فهم يمهدون لقرارات الحكام ثم يدافعون عنها ويزينونها إلى الناس ويتولون مهمة الهجوم على كل من يخالفهم الرأي إذا تعارضت مصالح الحاكم ــ ولي نعمتهم ــ مع الحقيقة في أوضح صورها وأبسط معانيها.
والتاريخ يعلمنا يا ولدي أن الحكام لا يحبون الحقيقة لذلك يكتبون التاريخ على هواهم ومن هذا المنطلق سمي التاريخ بـ"قصة الملوك".
ثم قال لي: كيف أكتب عن أحداث لا أعرف عنها أي شيء سوى الكلام المكتوب في تلك الكتب.
إن الحياة مثل المسرح وإن الذي يتصدى للكتابة يا ولدي الحبيب يجب أن يكون إما أحد أبطال العرض مثل عثمان أحمد عثمان أو أن يكون من أولئك الذين يقفون في الكواليس مثل هيكل وأحمد بهاء الدين أو على الأقل يكون من الجمهور الذي يجلس في القاعة ويشاهد العرض مثل أنيس منصور.
وأنا لست واحدا من الأصناف الثلاثة.
فأنا لست سياسيا ولا أحب أن أكون كذلك.
ولا أنا لست صحفيا أعرف ما يدور من خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة.
ولا حتى أنا من الذين يرون المشهد عن قرب.
أنا يا حبيبي أجلس في بني سويف أُعَلِّم الأولاد في المدرسة مستخدما السبورة والطباشير، وكل ما أعرفه هو كلام نقله لنا أناس غيرنا لا يمكن أن نثق كل الثقة في صحة نواياهم ولا ما انطوت عليه ضمائرهم.
وبالتالي لا يمكن أن نؤمن بصحة كل ما في تلك الكتب.
قلت: إذا لماذا تتكبد عناء القراءة؟!
قال: أقرأ؛ لأعرف حجم الكذب لدى كل واحد من هؤلاء، وحجم الصدق لديه، كما يستقر ذلك في ضميري ويطئمن إلى ذلك فؤادي.
فلا أحد صادق بالمطلق إلا الله في كتابه العزيز.
لقد ذهب جمال يا ولدي وذهبت معه كل الحقائق، وكان يقصد جمال عبد الناصر، فقد كان والدي ناصريا حتى أعمق نقطة في فؤاده برغم أنه كان يراه آخر فراعنة مصر، ويراه رجلا عظيم الإنجازات وعظيم الأخطاء في آن معا.
ثم أكمل حديثه ــ والكلام كان في عام 1995م ــ وكأني على رأسي الطير، أجلس في حضرته خاشعا صامتا أسمع وأتعرف للمرة الأولى على حقائق الحياة وعلى أسماء كتاب وعناوين كتابات:
لكن لا بأس يا محمد.
يمكن أن تكبر أنت وتحترف العمل في الصحافة والفكر والبحث ويمكن أن تصبح سياسيا وتروي أنت وتفعل ما لم يتمكن والدك من فعله.
وها أنا الآن يا أبي أسير في عامي الأربعين...
ولا أعرف ما إذا كنتُ قد أوفيتُ بما عاهدتَني عليه؟!
أم أنني ضللتُ الطريق وسط قنابل الدخان؟!