أتى رمضان تملأ نفحاته الطيبة الأرجاء، شهر كريم ينتظره الجميع بفرح وسرور، أحضرت ابنتي الزينة لتعلقها وهي تتمايل وتغني"رمضان جانا"، وفقت على الكرسي أتناول منها حبل الزينة لتثبيته على الحائط وأنا أردد معها "أهلاً رمضان".
سحبتني ذاكرتي مع ترديد الأغنية لوقت طفولتي، وأنا أقف بجوار والدي منبهرة بحبل النور الذي تزينه لمبات مطليه بألوان مختلفة، يستخرجها من الصندوق الخشبي الكبير الذي يحتفظ فيه بالفانوس والزينة من العام للعام، بالنسبة لوالدي شهر رمضان موسما للعمل والإبداع فهو يمتلك مطعما للفول والطعمية ويبرع في تحضير أنواع كثيرة من المخللات، والسلطات مختلفة الأنواع ووصفات الفول المختلفة والمميزة.
نتجمع أنا وإخوتي ليلة الرؤية لمساعدة أبي في تزيين المحل، لنبدأ في اليوم التالي التجهيز للعمل من بعد صلاة العصر بفتح أبواب المحل ووضع (المنقد الفخاري) أمامه فيتعبق الجو بالعطر الذي يفوح مع الدخان المتصاعد من الفحم المحترق بعد وضع البخور فوقه، نقوم بعدها بمسح الطاولات استعدادا لاستقبال الزبائن، بينما يرفع أبي قدر الفول المدمس على الحامل النحاسي ويضع تحته وابور الجاز المشتعل ليظل ساخنا، ثم يجهز الفول المدشوش المنقوع في الماء منذ ليلة الأمس، يخلط معه البقدونس المفروم والبصل والثوم والملح والكسبرة الناشفة والكمون، ثم يضع الخليط داخل ماكينة الفرم ذات الذراع الحديدية ويضغط مفتاح الكهرباء فتدور لتهرسه، ليستخرجها بعد دقائق عجينة لينة يشكلها أقراص صغيرة أو أصابع، يضعها في الزيت الساخن لتنتفخ أقراص الطعمية مطلقة في الأرجاء رائحتها الزكية.
أترك إخوتي يتمون العمل مع والدي وأصعد لمساعدة والدتي في تجهيز الإفطار، فأجدها قد قاربت على الانتهاء .. أقف بجانبها أستنشق روائح الطعام في اشتهاء وأمني نفسي بإفطار لذيذ، بعد دقائق من الإعداد أحمل عنها الأطباق العامرة بما لذ وطاب لأضعها على المائدة، ثم أوزع بجانبها أكواب التمر المنقوع منذ الصباح في الماء والسكر، بينما تتابع أذني صوت القارئ على أثير الإذاعة مترقبة انتهائه بقول: صدق الله العظيم، وانطلاق مدفع الإفطار.
مع ارتفاع صوت الأذان نتجمع حول المائدة التي كان دائما آخر المنضمين لها هو والدي، الذي يأتي بعد أن يضع الإفطار لزبائنه ثم يختلس دقائق يشاركنا فيها الطعام قبل أن يعود لهم مرة أخرى حاملاً بين يديه أطباق الكنافة والقطائف ..
أفقت على صوت ابنتي تسألني عن دموعي المنسابة على خدّي، فتركت ما بيدي وجلست أحتضنها وأحكي لها ذكرياتي مع الشهر الكريم، وأترحم على والدي.