كانت تنتزع جسد ابنتها الصغير من بين أيادي زوجها وأمها، تخفيها خلف ظهرها، وتدفعهما بجسدها الذي نحتته الآلام والسنوات، قالت لهما والبكاء يختلط بكلماتها: لا .. ليس ثانية ..، ثم استدارت والتقطت ابنتها واعتصرتها بين ذراعيها، ونظرت إلى أمها وقالت: لم أسامحك .. ولن أكون مثلك.
أغمضت عينيها بألم متذكرة تلك الحادثة التي مرت عليها سنوات طويلة، إنها تتذكر ما حدث جيدًا؛ كانت طفلة في السابعة من عمرها، يتشابه اسمها مع ابنة جارتهم التي تكبرها بعشر سنوات.
تتذكر جيدا ذلك اليوم حين دق طفل من أبناء الجيران باب منزلهم، وطلب منها صحبته لأعلى السلم كما تعودا للعب الغميضة، لاحظت أن في يده ورقة، سألته عنها، فأجابها: أن جارهم الشاب الذي يسكن في البيت المقابل لهم قد أعطاه إياها ليسلمها لها، تتذكر جيدًا أمها التي كانت منحنية تكنس صالة شقتهم ثم ألقت بالمقشة التي كانت بيدها واندفعت نحوهما لتخطف الورقة قبل أن تصل إلى يدها محاولة قراءة ما بها، تتذكر ملامح وجه أمها وهي تتقلص وتتشنج كلما وقعت عيناها على كلمات الخطاب التي تتفجر بالغرام وترتد إلى جسدها فينتفض، وتذم شفتيها ثم تفتحهما بالسب واللعن، تتذكر جيدًا أنها كانت تفر من تحت اللطمات واللكمات .. بينما تلاحقها كلمات أمها المتوعدة إياها بالحبس في المنزل ومنعها من اللعب مع أبناء الجيران.
كانت قد تسمرت في مكانها وقد أطبقت الأم يدها على الورقة بغضب، ثم استدارت وعبرت نحو الشقة بينما هي واقفة كتمثال على السلم الصاعد أعلى شقتهم وقد سيطر عليها الألم والرعب .. لم يكن يتحرك فيها غير قلبها الذي يرتج في صدرها وعينيها اللتين تتابعان أمها تدخل إلى غرفة أبيها ويدها مطبقة على الخطاب الغرامي، وتغلق الباب خلفها بعنف حتى أنه ارتد ولم ينغلق تماماً .
تتذكر جيدًا .. ساقيها المرتعشتين وهما تحاولان التسلل نحو الشقة .. ووقوفها في تلك الزاوية - التي تقف فيها الآن - وعيناها مصوبتان على فُرجة الباب .. تتذكر أبيها الذي انتفض على سريره من صوت ارتطام الباب، وصراخ أمها حين مدت يدها له بالخطاب :
- كان عليك أن تطيعني يوم أخبرتك أنه آن الأوان .. ليتني ما سمعت كلامك يوم جمعتْ أمي بنات العائلة .. وأنت فقط من اعترض، خوفًا عليها لصغر سنها .. سأخبر أمي الليلة أن ترسلهم وغدًا سيتم الأمر.
تتذكر أنه في اليوم التالي دق باب المنزل: جرت لتفتحه فوجدت أمامها امرأتين غريبتين تسألان عن أمها، واحدة منهما طويلة وبها نحافة واضحة، والأخرى بدينة ومكتنزة الجسم، كانت السيدتان تنظران إليها ثم تنظران لبعضهما وتبتسمان وتسألانها عن اسمها، تنادي على أمها، فتأتي مهرولة وتستقبلهما بحفاوة وتغدق عليهما واجب الضيافة، قبل أن تدخلهما غرفتها، وتنادي عليها وتجذبها من يدها برفق ثم تجلسها على حجرها، كانت قد كبرت على مثل تلك الجلسة .. تتذكر مباغتة أمها لها حين احتضنتها من ظهرها وكتَّفتْ ذراعيها رافعة طرف ثوبها .. وتلك المرأة النحيفة وهي تتقدم نحوها لتنتزع عنها ملابسها الداخلية بينما هي تصرخ في فزع:
- أمي أبعديها .. ماذا تفعل؟!
= لا تخافي ستكونين هادئة ومؤدبة.
يومها .. لم يكن عقلها الصغير قادرًا على فهم كلمات أمها، ولا إدراك ما تفعله بها، كان عقلها يرفض تصديق أن أمها وهي التي كانت تنصحها بالحفاظ على جسدها من الغرباء، تركت امرأة غريبة تجردها من ملابسها التحتية!
لم يشفع لها بكاؤها وصراخها وتساؤلها عم يحدث، انتابها رعب هائل وهي تتابع بعينيها الباكيتين تلك البدينة وهي تفتح حقيبتها وتخرج منها قطعة من القماش الأبيض المطوية بعناية، ثم تفتح طياتها تباعًا إلى أن تستخرج منها شيئا معدنيًا لامعًا، لتسلمه لشريكتها النحيفة، وفي ذات اللحظة كانت أمها قد باعدت بين ساقيها بكل قوتها، فتنقض تلك النحيفة على لحمها العاري، بذلك الشيء الذي يلمع نصله في يديها .. شعرت ببرودة المعدن على جسدها المكشوف، وكلمح البصر اجتثت المرأة ذلك الجزء من لحمها الحي آخذة معه جزء من روحها البريئة!
تتذكر جيداً أنها قضت ليلتها آنذاك كذبيحة على يد أمها وتلك الغريبتين .. لم تختبر ألمًا مثل ألم الذبح، إلا أنها في اليوم التالي كانت على موعد مع ذبح جديد .. تتذكر .. أنه قد طلع عليها ذاك الصباح المعتم وقد تعالت أصوات على درج البيت .. أصوات نافرة زاعقة متداخلة .. صوت أقدام تدق درج السلم صاعدة ونازلة إلى شقة تلك البنت التي تكبرها بسنوات وتشاركها الاسم .. كانت أمها تسد فتحة باب شقتهم بجسدها .. إلا إنها استطاعت أن ترى والد تلك البنت وقد أمسك ذلك الشاب من رقبته .. بعد أن اكتشف أن ذاك الخطاب الغرامي كان لابنته!
هي الآن وبعد تلك السنوات .. تقف في هذه الزاوية وقد استغرقتها الذكرى التي ما فارقتها حتى بعد أن تزوجت وأنجبت هذه الطفلة التي تعتصرها الآن بين ذراعيها، وعيناها مصوبتان نحو نصل بارد بيد امرأة غريبة، ثم تسدد نظراتها نحو أمها .. والكلمات تخرج من فمها مُرة متألمة لكنها نافذة ومصممة وحادة:
- لم أسامحك .. ولن أكون مثلك.