استيقظتُ صباح اليوم ولم أجد أمي في البيت، أخبرتني أختي أنها خرجت ولا تعرف إلى أين، لم يكن من عادة أمي الخروج وحدها، كانت إذا خرجت تصطحب واحدة منا، كنت أتنقل بين البلكونة والشباك لرؤيتها وهي عائدة، كان الشيخ حسان ينقر على الميكروفون استعدادًا لأذان الظهر حين رأيتها تدخل شارعنا .. وتشير لخالتي بالسلام .. توجهت خالتي لمنزلها الذي يقع في أول الشارع، بينما أكملت أمي طريقها نحو البيت .. وهي تمسك بيدها شيئًا ملفوفًا تنقله من يد لأخرى بحرص .. وحين مرت أمام المسجد رفعت وجهها للسماء وكأنها تبتهل بالدعاء.
جريت بسرعة ونزلت السلم قفزًا، فتحتُ الباب وما كدت أحاول احتضانها كعادتي حتى أبعدتني حاملة الكيس بعيدًا بإحدى يديها .. وأشارت لي بالصعود، أثناء صعودي سألتها أين كانت؟
- كنت مع خالتك في مشوار ..
=آه يعني روحتوا فين؟!، ومأخدتنيش معاكِ ليه؟!
- اصبري .. أطلع وآخد نفسي،
= إيه اللي معاكِ ده؟!
أبعدتْ يدها ونهرتنى بنظرة حادة، وأكملتْ صعودها.
توجهتْ أمي مباشرة إلى المطبخ، وضعتْ الكيس الذي كانت تحمله فوق الثلاجة بحرص شديد، ثم دخلت غرفتها ودفعت الباب خلفها بهدوء .
كانت عيناي لا تفارقان باب غرفة أمي وأنا أتسلل نحو المطبخ يقتلني الفضول، مددت يدي فوق الثلاجة وسحبت الكيس، كان خفيفًا حتى ظننته فارغًا!
وضعته أمامي على الطاولة وفتحته بحرص، وإذ بي أجد داخله لفافة ورقيه مكورة تستقر هناك بعيدا في القاع، مددت أصابعي نحوها لأتبين ما بداخلها، وما إن انزاحت طياتها حتى رأيت بداخلها بيضة!
قلت : بيضة!
بيضة واحدة!
اشترت أمي بيضة واحدة؟!
وأنا أعيد طي اللفافة استدارت البيضة، فرأيت مكتوبا عليها كتابات بمدادٍ أحمر أقرب إلى اللون البرتقالي، غير أنني لم أستطع قراءة أي حرف منها، وحين هممتُ بإخراجها من الكيس، أتاني صراخ أمي:
- إنتي بتعملي إيه، هاتي الكيس ده متلمسيش حاجة.
استسلمت لأمر أمي وصراخها ومددت يدي بالكيس المفتوح، فأخذته مني بحرص ونظرت داخله كمن يطمئن على أمر ما، ثم أغلقته وأعادته مكانه وحين استدارت نحوي كان وجهي ينطق بالتساؤلات، وهي تتحرك خارجة من المطبخ قالت لي: "ده علشان أختك"
كنت أقف مكاني أحاول فهم ما قالته، حين نادتني أن ألحق بها إلى غرفتها .
لحقت بها، كانت جالسة على طرف السرير الذي تنام عليه وحيدة بعد موت أبي، ونظراتها مصوبة بين قدميها، فجلست بجوارها
= يعني إيه البيضة دي علشان أختي؟!
اقتربت مني وهي تخفض صوتها دون أن ترفع عينيها
- ربنا يإذي المؤذي .. مبتكملهاش فرحة، كل ما يجي نصيب يروح
= آه .. بس برضو إيه دخل البيضة بأختي؟!
- رفعت عينيها ومالت بجسدها للأمام، ونظرت نحو باب غرفة أختي ثم همست لي:
- خالتك الله يكرمها دلتني على راجل مبروك .. لسه راجعين من عنده
= آه وطبعا البيضة دي من عنده!
- دي قاري عليها وقال لي ادفنيها تحت عتبة البيت.
في الليل كنت أقف في الشباك أراقب أمي وهي تدفن البيضةَ تحت العتبةِ، دخلتُ على أختي غرفتنا، جذبتُ من فوقها الغطاء وأيقظتُها، جَلَسَتْ مكانها منزعجة مني، حكيتُ لها ما فعلته أمي، كانت تسمعني ووجهها كله ينطق بالحزن، ثم سألتُها هل توافقينَ على هذه التخاريف؟!
لفَّتْ وجهها للناحية الأخرى ونزلت دموعها: وهل لي إرادةٌ مع أمِّك؟! .. هي تراني عانسًا وأنا ما زلتُ في العشرين!
كان صوت أختي عاليًا حتى أن أمي قد سمعته في غرفتها، فدخلتْ علينا، ثم نظرتْ إلى أختي نظرة ما بين العتاب والشفقة، فقلتُ لأمي:
= وبعدين؟!
- ربنا يصلح الحال .. دلوقتي أي شاب يِخَطِّي فوقها هيخطب من عندنا .. وانتي ربنا كرمك وإن شاء الله يكرم اختك ..
= ونعرف منين إنها اشتغلت؟!
- لما يجي صاحب النصيب ..
= والبيضة بقى تعرف الموضوع ده؟!
التفتت أمي ونظرت إليَّ نظرة ما بين عدم الفهم والغيظ، وما كادت أن ترفع يدها لتضربني حتى جريتُ من أمامها كعادتنا.
قضينا ليلتنا أنا وأختي نتندر بالبيضة والعريس والشيخ المبروك، وجَرْيِ أمي ورائي بعد أن أغاظتها كلماتي، حتى غلبنا النوم .
وفي الصباح سمعنا صوت أمي وهي تستقبل محمود ابن خالتي، لم يكن من عادته أن يزورنا، كان محمود متزوجًا بإحدى قريبات أبيه، ورزق منها بثلاثة أبناء، غير أنه ـ كما سمعنا مرارًا ـ حياتهم جحيم ، قلت لأختي:
= إيه اللي جاب محمود الساعة دي؟!
- هيكون إيه؟! .. أكيد حكايته مع مراته ..
لكن قطع حديثنا صوت أمي وهي تصرخ في ابن خالتي:
- معندناش بنات للجواز .. قوم يابني على بيتك وعيالك ..
نظرت أنا وأختي لبعضنا البعض، ثم صرخنا ضاحكتين في نفسٍ واحد: داس على البيضة.