يحيرني كثيرا دأب البشر على التوقع، وانتظار الأشياء، علمتني صفعات الحياة أن ما ننتظره بشغف لا يأتي أبدا، ذات مرة أثناء ممارسة عملي بإحدى المستشفيات صادفني رجل يدعون كذبا أنه مجنون.
الحقيقة أن السيد (م) لم يكن مجنونا، بل كان يعاني التوقع والانتظار، ينتظر العناق، ولا يأتي، فيلجأ لتعاطي المنشطات، ينتظر شخصا واحدا ينصت إليه حين يسرد نفسه وآلامه، ولا يأتي، فيلجأ للأكل بشراهة ودون توقف. يصرخ لأنه لم يجد من يفهمه، من يجيد لغة الإنسانية التي يتحدثها.
كنت الوحيدة التي أصدقه ولا أتعجب أفعاله.
غرابة ما في وجهه تحض على الجوع الأزلي للتفكير، تحرضني على تأمله وهو يقوم بكل الأشياء.
ذات صباح، بعد عودتي من إجازة طويلة، رحت لأطمئن عليه، على غير عادته، لم يكن في الحديقة المخصصة للنزلاء، كان جالسا في غرفته، واضعا يده على خده وحين سألته أتنتظر شيئا ما؟ أجابني أنتظر المطر، أحتاج أن يغسلني كثيرا، أكد علىً ألا أخبر أحدا بذلك.وعدته فاطمأن.
طلبت منه أن يخرج معي لننتظر المطر في الخارج، ابتسم
وأخبرني أني أطلب ما هو متوقع، وأعتقد أنه منطقي، مؤكدا أنه يعرف جيدا أنها لن تمطر داخل الحجرة ذات السقف الخرساني، ابتسمت، هو محق، سجلت ملاحظاتي، وغادرت
فكرت في كل ما دار بيننا، كنت أعرف أنه من المستحيل أن تمطر داخل الغرفة أو خارجها، لأننا في شهر يوليو. تأكدت أن السيد "م" لديه شعور ما، يود أن يعبر عنه، لكنه يخشى أن تأتي الرياح بما لا ينتظر، مررت من الجانب الخلفي باتجاه مكتبي، ناداني رجل المطر من النافذة.
قال: دكتور، أنا لست مجنونا، ولا أدعي ذلك
افتقدتك كثيرا، لكني خفت أن أنتظرك، ولا تأتي، أجبرت نفسي على التفكير في كل الأشياء إلا انتظار عودتك.
أتعرفين؟ كل الأشياء في وجود شخص ينصت إليك تختلف، تنهد تنهيدة عميقة ثم أردف :
قرأت ذات مرة أن السماء في زمن الصبا كانت برغيّ ضخم ومجوَّف، يلهو به النسيم. وفي وجودك أنتِ تعود كل الأشياء لصباها، اعلمي أني مثلك تماما تلهو بي أفكاري، فأبرم اتفاقا مع الرياح أن تأتي بقوتها وتفعل فعلتها مباغتة، توقعت أن تنفذ الرياح اتفاقنا، فتسقط الأمطار.
سكت لثوان ثم طأطأ راسه قائلا: المؤسف الآن أنني أيضا عدت أنتظر وأتوقع مثلهم جميعا،صرت عاديا، ستفقدين شغف متابعتي، يحزنني أنك لهذا السبب ستتوقفين قريبا عن الاهتمام بي ومراقبتي، وأنا لا أشعر بالطمأنينة إلا في وجودك،
سيؤلمني كثيرا أن أنتظرك ولا تأتي كما فعلوا معي جميعا وآخرهم المطر.
#منى_قابل