لا تتعجَّب يا عزيزي إذا قلتُ لك: إنَّ النملَ وَحدَهُ كفيلٌ بإنشاء مدرسةٍ من القيم والمُثل العُليا التي تحتاج إليها المجتمعات الحديثة لبناء نهضتها، وتعزيز قوتها، ورفع مكانتها.
انظر إلى عَالَم النمل، ولطالما تفرَّغ لذلك علماء كثيرون، كرَّسُوا حياتهم لمراقبة سلوك النمل وطبائعه، وكم دَوَّنُوا في ذلك من أبحاثٍ منشورةٍ، ومجلداتٍ مسطورة، وحلقاتٍ مبثوثة.
ويكفي أن نشير لبعض تلك الدروس التي نتعلمها من طبائع وسلوكيات النمل في حياته:
🔴 التعاون وتوزيع الأدوار
لكل عضو في عائلة النمل دورٌ يقوم به:
👈 الذكر: تلقيح الملكة.
👈 الملكة: تضع البيض (أو "البيظ" بالظاء كما يقول الدميري تمييزًا للنمل عن غيره).
👈 الشغالات العاملات: تجمع الطعام وتخزنه، وترعى البيوض واليرقات الصغار، وتقوم بتنظيف المستعمرة، وتدافع عنها ضد الأعداء.
♦️ حتى فئة الشغالات نفسها مقسَّمة الأدوار فيما بينها:
👈 بعض الشغالات وظيفتهن حماية المستعمرة ضد المفترسين (النمل الجنود).
👈 وبعض شغالات النمل وظيفتهن استكشاف البيئة المحيطة والبحث عن الطعام (النمل المستكشف).
ولعل هذا النوع ما تقصده الآية الكريمة:
﴿قَالَتۡ نَمۡلَةࣱ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمۡ لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَیۡمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾ [النمل: 18]
🔴 التضحية من أجل بقاء النسل
وهذا ملحوظ بوضوح في (الذَّكَر) الذي رغم علمه بأن حياته ستنتهي بمجرد التلقيح، يقتحم المخاطر ويقوم بتلقيح الملكة، ويدرك مصيره بالموت، كي يستمر النسل.
سبحان الله، إنه يتصرَّف كأبطال البشر، ولا عجب، وربنا القائل:
﴿وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ﴾ [الأنعام: 38]
🔴 العمل والسعي والكد
لا يعرف النمل الكسل أبدًا، فهو طوال الوقت في حِراكٍ وسعيٍ من أجل بناء المستعمرة، وتخزين الطعام في البيات الشتوي.
سبحان الله، إنها لتُعلِّمُنا علو الهمة والنشاط، ولهذا كانت جديرة بالذكر في كتاب الله، وتتسمى باسمها سورة كاملة في القرآن: سورة النمل.
🔴 البناء والتعمير
وهو شيء مذهل نلمسه في حرص النمل على بناء مستعمراته بأبهى وأبدع صورة ممكنة.
🔴 القوة والقدرة في مواجهة التحديات
سبحان من وهب للنمل قوةً تجعله يقوم بدور الفلاح في حرث الأرض وتقليب ذرات التراب، الداخل في الخارج منها، والأعلى في الأسفل، والعكس.
سبحان الذي وهبها القدرة على حمل أحجام الطعام الكبيرة التي قد تفوق وزن جسمها أضعافًا، ومع ذلك تتحامل على نفسها في حمله ونقله للمستعمرة، كما رأينا النمل يحمل قطع من خبز وسكر أكبر من حجمه.
وسبحان من وهبها القدرة على تفتيت الخشب وأكله، وهو أمر صعب يحتاج إلى منشار وآلات.
وكيف يقطع الورق؟ وكيف وكيف؟ سبحان الله!!
🔴 النمل لا يعرف اليأس
الحق أن كل الكائنات تسير بأمل في الله ويقين برحمته ولطفه، وخاصة النمل، الذي لا يعرف اليأس.
وكما رأينا، حين يتهدم بيته يعاود بناءه مرة أخرى، وإذا طُرد من مكان، يبحث عن آخر، وكأنه بلسان الحال يقول:
"إذا لم تكن هنا لي حياة، فسوف أبحث عن مكان آخر ولن أستسلم."
🔴 الحكمة والقول المختصر المفيد
وهو درس قد لا نستطيع مشاهدته في عالم النمل فعليًا، ولكن عرفناه من أصدق مَرجع موثوق تحدَّث عن النمل وهو القرآن الكريم، ففي قوله تعالى:
﴿قَالَتۡ نَمۡلَةࣱ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمۡ لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَیۡمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾ [النمل: 18]
تطلعنا هذه الآية أن النملة أحست بقدوم الخطر، فنادت: "يا"، ونبهت: "أيها"، وعممت: "النمل"، وأمرت: "ادخلوا"، وحددت: "مساكنكم"، وأنذرت: "لا يحطمنكم"، وبالغت في لفظ التحطيم أقصى معنى، وفرقت بين القائد والجند (سليمان وجنوده)، وأعذرت: "لا يشعرون".
سبحان من علمها البيان، والإيجاز، والحكمة، والاهتمام بالآخر، وحب الغير، واستشعار الخطر، وتقديم النصيحة.
🔴 كذلك هناك دروس أخرى كثيرة، تحتاج إلى مقالة ثانية، نعرف فيها:
كيف يقوم النمل بحفر المقبرة لدفن موتاهم.
كيف امتنع النمل عن شرب المسكرات (تجربة اللورد أفبري).
وما المادة الكيميائية التي يفرزها النمل للدفاع عن نفسه ضد المفترسات.
ولا يسعنا في الختام إلا أن نردد قول الخالق الحكيم: ﴿وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ﴾
صدق الله العظيم.





































