لم يكن أمين مجرد شاب متفوق بين زملائه في الجامعة…
كان صورة للنظام وهو يمشي على قدمين.
تفوق في دراسته، و اعتاد أن الأشياء تستقيم حين تمسكها اليد بحزم.
و لما صدر قرار تعيينه أستاذا في مدرسة قروية بعيدة،
شعر أن رحلة الحياة بدأت تكشف امتحانها الحقيقي.
كان الطريق إلى القرية ممتدا كخط من الغبار،
ساكنا إلى حد يجعل الغريب يشعر بأن الزمن هناك يتنفس ببطء.
وحين دخل القسم لأول مرة،
شعر بأن الهواء نفسه يراقبه.
خمسة عشر تلميذا من كل الأعمار والمستويات،
وجوه صغيرة تلمع بالفضول،
تتحرك بلا قاعدة، بلا توقيت…
براءة صاخبة تشبه الفوضى،
و فوضى ناعمة تشبه الحياة في أولها.
حاول أمين أن يفرض النظام كما تعلم،
أن يزرع مبادئه كما يزرع الفلاح زرعته الأولى.
لكن الفوضى كانت تنبت أسرع مما ينبت صوته.
كانت رائحة الطباشير تمتزج بضحكات منفلتة،
و أسئلة تولد في لحظتها،
وخطوات صغيرة تركض قبل أن تعرف إلى أين تركض.
تسلل التعب إلى روحه،
ليس بسبب الأطفال،
بل بسبب الصراع بين ما يعرفه… وما يواجهه.
كان يشعر كما لو أنه محاصر في قفص لا جدران له،
قفص تصنعه الأرواح الصغيرة بقوانين
لا تقرأ في الكتب.
ومع الأيام، أدرك شيئا لم يتوقعه:
أن الفوضى ليست عدوا،
بل لغة…
وأن البراءة ليست حاجزا،
بل مفتاحا.
بدأ يراقب أكثر مما يتكلم،
يستمع قبل أن يعلم،
ويدخل في النهر دون أن يقاوم تياره.
وعندها فقط ظهرت له الشيفرة الخفية:
اللحظة التي يهدأ فيها الصف دون أمر،
و النظرة التي تسبق السؤال،
والطاقة الصغيرة التي إن احتضنها صارت إبداعا،
و إن تجاهلها صارت شغبا.
وفي يوم هادئ،
بين طباشير مستهلكة وضوء يدخل من نافذة قديمة،
ابتسم أمين.
لم ينتصر على الفوضى…
بل فهمها.
ولم يضبط القفص…
بل احترم براءته حتى كشف نفسه له.
وهكذا…
صار التعليم معه لا تحت يديه،
وتحولت التجربة من عبء إلى حكمة،
ومن امتحان إلى ولادة معلم يعرف كيف يصغي
قبل أن ينطق.




































