لا شكَّ أنَّ الماءَ من أعظمِ النِّعَمِ التي امتنَّ اللهُ تعالى بها على الخليقةِ جمعاء؛ فهو شِريانُ الحياةِ لكلِّ الأحياءِ، من الإنسانِ والحيوانِ والنَّبات.
قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30].
كما أنه أيضًا عامل أساس في البناء والعمران والصناعة وحركة التجارة والسفن التي لا تستغنى عنها الحياة أبدًا.
كذلك إلى جانبِ أهمِّيته في بقاءِ الحياة، فقد كان أيضًا أحدَ عواملِ النَّصرِ للحقِّ على الباطلِ في أبرزِ المعاركِ قديمًا وحديثًا.
نعم، لقد كان الماءُ آليَّةً مهمَّةً في تحقيقِ الانتصارِ على مدارِ فتراتٍ مختلفةٍ من التَّاريخ، ولعلَّ القرآنَ الكريمَ قد سجَّل لنا بعضَ هذه الانتصارات التي تحقَّقت بفضلِ السِّلاحِ المائيِّ، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾.
1- نصرُ سيدنا نُوحٍ عليه السَّلامُ بالماءِ
أشار القرآن الكريم إلى أن الماءَ كان من عواملِ نَصرِ نُوحٍ عليه السَّلام، قال تعالى:
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 9–14].
فتشير الآياتُ إلى أنَّ معجزةَ نوحٍ – وهي السَّفينةُ والطُّوفان – كانت مرتكزةً على الماءِ، وبه وقع الهلاكُ للكافرين، والنَّجاةُ للمؤمنين، وكأنَّ اللهَ سبحانهُ سخَّر الماءَ ليكونَ سلاحًا ربَّانيًّا لانتصارِ الحقِّ.
2- نصرُ سيدنا موسى عليه السَّلامُ عبرَ البحرِ
في قصَّةِ موسى عليه السَّلام، يَعرضُ القرآنُ كيف كان الماءُ أداةً للنَّجاةِ والنصرِ، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)﴾ [الشعراء].
على هذا النحو قد تحوَّل البحرُ إلى طريقٍ للنجاةِ لموسى والمؤمنين، وإلى مهلكةٍ لفرعون وجنوده، فكان الماءُ فيصلاً بين الحقِّ والباطلِ وسلاحًا انتصر به الحق.
3- وَكانَ الماءُ أداةً لِلنَّصرِ غَداةَ يَومِ الفُرقانِ، يَومَ الْتَقَى الجَمعانِ في غَزوةِ بَدرٍ، وَحينَ نَزَلَ المُسلِمونَ بِأرضٍ سَبِخَةٍ تَغوصُ فيها الأقدامُ، لا تَصلُحُ لِلكَرِّ وَلا لِلفَرِّ، وَحينَ أَصابَ بَعضَهُمُ الحَدَثُ يُريدُ أَن يَتَطَهَّرَ، وَظَمْآنُ يُريدُ الماءَ، وَالشَّيطانُ يَلعَبُ بِرِجْزِهِ في نُفوسِهِم بِالخَوفِ وَالقَلَقِ؛ فَأَنزَلَ اللهُ الماءَ مِنَ السَّماءِ لِيَتَطَهَّرَ المُحدِثُ، وَيَشرَبَ الظَّمآنُ، وَيُزالَ الخَوفُ وَالتَّوَتُّرُ، وَتَتَلَبَّدَ وَتَتَصَلَّبَ الأرضُ تَحتَ أقدامِهِم.
قال تعالى:
﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: 11].
فكان نزول الماءِ سببًا في: تطهيرِ الأجسادِ، وسُكونِ النُّفوسِ، وثباتِ الأقدامِ، وطمأنينةِ القلوبِ!
فأيُّ نصرٍ أعظمُ من أن يُهيِّئ اللهُ الماءَ ليكون سلاحًا نفسيًّا وجسديًّا في لحظةٍ حرجةٍ؟
4- وَفي السّيرةِ النَّبويَّةِ، نُبصر عُلوَّ الكفاءةِ القياديَّة في حرصه ﷺ على السيطرةِ على مواردِ الماء في أغلب معاركه وغزواته.
فكما في حَديثِ يَومِ بَدرٍ، لَمّا وَصَلَ المُسلِمونَ إلى بَدرٍ، بَادَرَ النَّبيُّ ﷺ بِالسَّيطرةِ على أقرَبِ بِئرٍ إلى جَيشِ قُريش، وَدَفَنَ الآبارَ الأُخرى، أَو جَعَلَها بَعيدةً عَن مُتناوَلِ العَدوِّ.
وَفي حِصارِ خَيبَرَ، اعتَمَدَ النَّبيُّ ﷺ على مُحاصَرةِ الحُصونِ، وَقَطعِ المَوارِدِ عنها، وَكانَ الماءُ مِن أَهمِّها.
وفي بعض الغزوات، كان يختار التوقّف عند العيون والآبار لتأمين الإمدادات، بل وكان يُرسل سرايا استطلاع لرصد المياه وتجفيفها عن العدو.
5- وليس هذا فقط في عصر المعجزات والنبوات، بل حدث ذلك في عصرنا الحديث، حين تجلّت عبقريَّة السلاح المائي في حرب العاشر من رمضان (6 أكتوبر 1973م)، حيث استخدم الجيش المصريُّ خراطيم المياه لتحطيم خط بارليف، الحاجز الذي قِيل إنَّه لا يُدمَّر إلّا بـ "قنبلة نووية"، فدمّره الأبطالُ بـ قوة الماء!
هكذا نرى أنَّ الماءَ لم يكن فقط سببًا في الحياةِ، بل كان أيضًا سلاحًا للنصرِ في كثيرٍ من المعارك الكبرى في التاريخ الإنساني.
فلنحافظْ عليه، فهو نعمةٌ كبرى، وسلاحٌ قد يُعاد استخدامُه في صورٍ جديدةٍ من معاركِ الوعي والبقاء.