عندما كنت في المرحلة الثانوية دخل أستاذ ضخم البنية كلاعبي كمال الأجسام ذو صوت جهوري يهز الجدران ليكون معلمي للغة العربية، ورغم خوف ورهبة الطالبات منه إلا أني أكاد أجزم أنني الوحيدة التي لم تخف يومًا منه.
كنت على مدار عامين القارئة الوحيدة لدروس اللغة العربية وبالمثل مواضيع التعبير التي أكتبها بيدي وأحيانًا يدور النقاش حول ما كتبت، كنت أعلم غيرة الفتيات ومحاولتهن المستميتة لإنهاء دوري في تلك الحصة ولكني لم أهتم كثيرًا لأمرهن فالغيرة دليل النجاح، وعبارة (اشمعنى هي) تكفي لإحساسي بلذة الانتصار، وحين زادت منهن الغبطة أو ربما حسد ليس محمودًا وأصبحت العبارات صريحة ومعلنة؛ قرر الأستاذ أن تقرأ كل طالبة ما كتبته على الملأ ليكون أول انتصار حقيقي لقلمي؛ فلم أخفكم سرًا لقد كنت أخشى التعامل معهن، أتذكر مرة أخذت مني إحداهن ورقة الامتحان ونقلت الإجابة بالكامل ولم أستطع النطق ببنت شفة....
لحظة... لم أكن مسالمة أو ضعيفة الشخصية كما تخيلتم ولكني كنت أستوعب جيدًا أن الكثرة تغلب الشجاعة، وقد كنت فتاة تخشى على مظهرها العام بالطبع ككل بنات حواء (هذا كان تبريري لنفسي).
عرض معلمي عليّ حين مرة أن أدخل إحدى المسابقات في طابور الصباح، حركت رأسي برفض دون الإفصاح عن السبب الذي لا أعرفه أنا شخصيًا، صاح في وجهي ليرتعد جسدي وقد تخيلته يلقي سيفه المسنون كعنترة ليخرج أحشائي ربما يجد سببًا منطقيًا بداخلي ولكنه قال بغلظة: (إنتي حرة)
وتمضي السنوات وكلما مرت أمامي تلك المعلومات الصغيرة التي كان يثري بها شرحه الماتع بثقافته المذهلة أتذكر معها صوته الذي كان يهز زجاج النوافذ وأنا أتخيله عنتر بن شداد الذي يمسك بكتاب قصته يشرح ما فعله الفارس المغوار والشاعر الهُمام.
تأكدت منذ ذلك الوقت أن المعلم يحفر تاريخه داخل طلابه حتى وإن لم يعلم عنهم شيء فيما بعد، فهناك معلم يستحق الدعاء له وآخر الدعاء عليه! هكذا يصنع المعلم لنفسه صدقة جارية أو ذنبًا جاريًا في نفوس تتشكل على يديه!
أستاذي الفاضل ربما لا تتذكرني أو لم ترَ حكاياتي تلك ويراها معلمًا آخر غيرك فتصل رسالتي إلى قلبه فيقرر أن يغرس ما يصعب اقتلاعه مع الأيام.