رغم أنَّهم يُطعمونها ويسقونها، ويُوّفرونَ لها مكانًا للنومِ إلَّا أنَّها غير راضية، وتطمح للكثير، تطمح للحُرّيةِ التي تفتقدها، فهي أسيرةٌ عنيدة يُحاولونَ إقناعها بأنَّهُ لا رزق لها إلَّا عن طريقهم هُم وحسب، لكنَّها لم تستكن لنظرتهم تلك.
حاولتْ الهربَ منهم والعودة إلى ذويها، لكنَّها لم تُفلِح؛ فقد تَمَّ اِختطافها مُنذُ عقدٍ إذ كان عُمرها عشر سنوات، والآن لا تعلمُ عنهم أيّ شيء، أيّ شيءٍ على الإطلاق غيرَ اسم المنطقة التي كانوا يقطنونَ بها آنذاك.
ولأجلِ أنْ تظلَّ بينهم فقد طلبَ منها كبير الأخيار الزواج، إلَّا أنَّها رفضتْ، لعدم وجود مشاعرٍ منها تجاهه، ولأنَّهُ هو يُحبُّها صَبَرَ عليها، ولم يُخبر أولادهُ برفضها، كي لا يطالها أذاهم.
مَرّت الأيَّام وكبُرتْ الصغيرة، ودّقَ قلبها حينَ رأتهُ، الطبيب الذي جاءوا بهِ ليفحصَ إحدى الزوجات الثلاث لكبير الأخيار، نَظَرَ إليها فأسرَّته، أحبَّ خُلقها قبلَ خِلقتها الحَسنة، رَغِبَ في الزواجِ منها، وهي كذلك، لكنَّ الأمر قد اِنتهى قبلَ أنْ يبدأ؛ فقد تمَّ نقلهِ بعيدًا عن منطقةِ كبير الأخيار، كما تَمَّ تهديدهِ من قِبَلِهِ ممّا اضطرهُ للتراجُعِ عن فكرةِ الزواج من عَينُ القلبِ كما سمَّاها أبا يحيى.
عَلِمَتْ بأمرِ الطبيب فبكتْ وبكتْ وبكتْ، حتّى نصحتها الزوجة الأُولى لأبي يحيى (كبير الأخيار) أنْ تُفكّرَ بعقلها ولا داعي للقلبِ الآن، كي يُمكنها الوصولُ إلى أهلها، فأبو يحيى يُحِبُّها كثيرًا بل ويُفضّلها حتّى على أبنائه.
فكّرتْ مرارًا وتكرارًا إلَّا أنَّ عقلها لا يقبل هذهِ الفكرة، فكيفَ تتزوّج من رَجُلٍ تهابه، ورغم أنَّهُ يُعاملها باللطفِ واللين مُنذُ جاءوا بها إليهِ إلَّا أنَّها تخشى الوقوفَ أمامه؛ فقد رأتهُ وهي ابنة الثامنةَ عشر يقتلُ إحدى فتياتهِ حينَ أحبَّتْ أحد الغُرباء عن عائلاتهم، فأوهمها بالزواجِ ثُمَّ سَلَبَها شرفها باسمِ الحُبّ.
والحقيقةُ أنَّهُ لم يسلُبها شرفها هي فحسب، بل شرف عائلات الأخيار جميعًا، لهذا السبب اِقتضى العُرف أنْ تُقتَل، لتَكُن دِماءها كَفّارةٌ لها.
حينها حَزِنتْ عَينُ القلبِ على الفقيدة، وتحدّثتْ مع أُمّ يحيى (الزوجة الأُولى لكبيرِ الأخيار) أنْ تسألَ أبا يحيى عن حقِّ ابنته، وبالفِعلِ سألتهُ ثُمَّ أمرها بأنْ تأتيهِ بمَن أوعزَ لها، فأتتهُ بعَينِ القلب.
مَثُلَتْ أمامهُ بعد ما عادتْ أُمّ يحيى لغُرفتها، نَظَرَ إليها بعطفٍ قبلَ أنْ يسألها التوضيح، لم تتمالك نفسها فأخذتْ تبكي حتّى طمأنها بقوله: لا تخافي، فأنتِ عَينُ القلبِ وأنا أمانكِ بعد اللَّه.
قد غذّيتَ عقلي بكثرةِ الكُتب التي زدتني بها وجعلتني أقرأها يا سَيّدي، لذا فمن العقلِ أنْ تبحثَ عن حقِّ ابنتكَ المغدور بها، حتّى وإنْ هربتْ من البيتِ لتُسلِّمَ نفسها للخائنِ ذلك، كانَ لزامًا عليكم أنْ تأتوا بهِ هو أوّلًا لتقتصوا منهُ لشرفكم الذي سرقه، ثُمَّ بعدَ ذلك تسأل أهل الفُتيا في حالِ ابنتك، فعلى حدّ عِلمي أنَّ عقابها سيكونُ وخيمًا لكنَّهُ لن يَرقى لزهقِ روحها.
أخذتْ تتحدّث إلى أبي يحيى دونَ أنْ ترقى بنظرها إليه، خجلًا منهُ ومَهابةً له.
وبعد أنْ فرغتْ حدّثها أبو يحيى بصوتٍ رخيمٍ: ليطمئنَّ قلبُ عَينُ قلبي، سَمِعَتْ مقالتهُ فما كانَ منها إلَّا أنْ هرولتْ لغُرفتها.
فاقتْ من ذكرياتها على صوتِ طرقِ الباب، فتحتْ لترى أبا يحيى قد جاءها ليطمئنَّ عليها، بعد أنْ عَلِمَ ببُكائها، ثُمَّ طلبَ منها أنْ تأتيهُ بغُرفةِ الضيافة.
لحظاتٍ وكانتْ قد جلستْ أمامهُ هُناك، سألها: عَينُ القلبِ مُذ جاءوا بكِ إليَّ أطالكِ أذى؟
أجابتْ بالنفي.
سألها: طِيلة إقامتُكِ معنا أجُرِحتِ بكلمة؟
أجابتْ بالنفي.
سألها: مُنذُ عامينِ عرضتُ عليكِ الزواج، لكنَّكِ رفضتِ مُتعللةً بعدمِ وجودِ حُبٍّ، أتغيّرتْ مُعاملتي لكِ بعدَ رفضكِ؟
أجابتْ بالنفي وقد تساقطتْ عَبراتها.
طمأنها بصوتٍ رخيم: لا عليكِ عَينُ القلبِ فلن أُجبركِ على شيء، ولتعلمي بأنَّهُ حينَ تمَّ اِختطافكِ لم تكوني أنتِ المقصودة، بل كانتْ طفلة أُخرى من عائلةٍ بعَينها؛ لنردَّ اِعتبارنا بعد أنْ قاموا بخطفِ طفلٍ من عائلاتِ الأخيار.
نظرتْ إليهِ بفمٍ فاغر دونَ أنْ تنبسَ ببنت شفة.
تبسمَ لها وأضاف: هل فكّرتِ ولو لدقائقَ معدوداتٍ عن الحكمة من وجودكِ معنا؟
أجابتهُ بالنفي.
تنّهدَ قبلَ أنْ يُردف: حسنًا، عَينُ القلبِ أعدّي حقيبتكِ كي أوصلكِ لأهلكِ.
تهللتْ أساريرها وراحتْ تتجهّز.
مَرّت نصف ساعة، وكانتْ عَينُ القلبِ قد أعدَّتْ حقيبتها، وفي اِنتظارِ الذهابِ إلى أهلها.
ودّعَتْ جميع مَن في البيت، ثُمَّ وقفتْ أمامَ كبيرهم أبا يحيى وعيناها تذرفان، لم تستطع أنْ تتحدّث من كثرةِ بُكائها، ولأوّلِ مرّة تَرى دمع أبي يحيى يتساقط أمامها.
اِقتربت منهُ لتمسحَ دمعهُ كي لا يَراهُ غيرها، ثُمَّ تبسمتْ لهُ قبلَ أنْ تُضيف: لن أنساكَ ما حَييتُ سَيّدي، سأطمئن على أهلي وأعود للبيتِ ثانيةً، ولكنْ عليكَ أنْ تزورنا وتتفقَ مع أبي كي تأخذني منه.
تبسمَ لها أبا يحيى وسألها: أتقصدينَ أنَّكِ...
أجابتهُ ببسمةٍ خجلى: أجل.
سألها: أحقًّا عَينُ القلب؟
أومأتْ لهُ ثُمَّ ذهبتْ.
رضوى، رضوووووووى.
ماذا تريدينَ أُمّي؟
أُريدُكِ أنْ تُساعديني في إعدادِ الغداء فأبيكِ أوشكَ على القدوم.
رضوى: حسنًا أُمّي سأفعل ولكنْ بعد أنْ أُنهي قراءة القصّة.
الأُمّ غاضبة: ألم تُنهيها بعد؟
رضوى: لا أُمّي.
الأُمّ بحزم: لا دخلَ لي بقصّتكِ، خُذي هذهِ البطاطس وقومي بتحميرها، فأبيكِ يُحِبُّها كثيرًا، وضعي هذهِ القصّة جانبًا، هيّا فأبيكِ قد أنهى عملهُ وأوشكَ على المجيء.
رضوى مُتأففة: حسنًا أُمّي سأفعل.
وضعتْ رضوى القصّة جانبًا ثُمَّ أخذتْ تُحمّر البطاطس، وبعدها ذهبتْ لتُعِدَّ المائدة، بينما هي كذلكَ دلفَ أخيها الصغير المطبخ، فأخذَ القصّة وقامَ بتقطيعِ صفحاتها، ووضعَ بعضها على موقد الغاز المُشتعل، لتخرجَ رائحة الورق المحروق إلى الصالة.
أسرعتْ الأُمّ إلى المطبخِ فأطفأتْ موقد الغاز، لكنَّها لم تستطع إنقاذ القصّة من الحريق، فقد أضحتْ رمادًا.
صرختْ رضوى حينَ رأتْ قصّتها رمادًا: لااااااااااااااا.. لم أقرأ نهايتها، ولا أدري إنْ كانتْ عَينُ القلبِ ستتزوج من أبي يحيى أم لا؟
عَينُ القلبِ هل ستعودييييييين؟
سألتها أُمّها: ألم تُخبريني البارحة أنَّها جزءين؟
تهللتْ أساريرها وأجابتْ: بلى أُمّي، بلى، لكنَّني قد نسيت، حسنًا سأبتاعُ الجزء الثاني غدًا لأعلمَ ما الذي حدث؟
الأُمّ: وهو كذلك، قومي لتغسلي وجهكِ قبلَ أنْ نتناول الغداء.