قصّة قصيرة
أخذَ عطفٌ يختارُ اسمًا لمولودتهِ التي وُضِعتْ للتو، اِحتارَ من كثرةِ الأسماء التي يُحِبُّها، قرَرَ أنْ يُسمّيها اسمًا جامعًا فكانَ (ميم).
مَرِضتْ إيواء بعدَ الوضعِ مُباشرةً فَحُجِزَ بينها وبينَ ميم، لئلا يُصيبَ ابنتها ما أصابها من الحُمّى.
أرادَ عطفٌ أنْ تَبقى ابنتهُ على قيدِ الحياة، فاستأجرَ لها مُرضعاتٍ لكنَّها أبتْ أنْ ترضعَ منهُنَّ، حاولَ أنْ يُرضعها لبن الغنم، لكنَّها لا تستجيب، ابتاعَ لها بعض اللبن الجافّ، ثُمَّ قامَ بخلطهِ ببعضِ الماء الدافئ السابق غليه، لكنَّها لفظتهُ من جوفها حينها حاولَ إرضاعها إيَّاه.
لم تبقى محاولة لإرضاعِ ميم إلَّا وقد فعلها عطفٌ لكنْ بلا جدوى، ماتتْ إيواء بالحُمّى، وبقيَ زوجها وحيدًا يبكيها بُكاء الابن فِراقَ أُمّه، بينما ميم تُصارع الموت بعدَ رفضها الرضاعة.
وارى عطفٌ جسدَ إيواء التُراب، ثُمَّ أخذَ ميم وذهبَ بِها إلى جبلِ الحلول، ذلكَ الجبل الذي اِجتمعتْ بهِ حلول كُلّ المُشكلات، وما أنْ وَصَلَ حتّى تصدّعَ الجبل، ظَنَّهُ زلزال فاختبأ خلفَ ساترٍ من الرِمال، لحظاتٍ وعادَ الجبلُ كما كان، وَقَفَ عطفٌ أمامهُ حاملًا ميم على أكُفَّه، سألَ الجبلُ حلًّا فقد أبتْ الرضاعة ولم يَجدْ لها حلًّا.
تَفَّتَقَ الجبل لتظهرَ كُوّة، اِقتربَ منها عطفٌ ومَدَّ يدهُ لتخرجَ بمطويةٍ قديمة، فتحها على الفورِ وقرأها، فإذ بِها خريطة توضّح لهُ طريقٌ يُؤدي إلى شجرةٍ عتيقة، فَهِمَ مَقصِدَ الخريطة وبدأ في التحرُّكِ مُتتبعًا ما خُطَّ بِها من تعليمات.
مَرَّ وقتٌ يسير وقد وَصَلَ عطفٌ إلى مُبتغاه، فها هو الآن يَقِفُ أمامَ الشجرة العتيقة، أخذَ ينظر إليها ولسانُ حالهِ يقول: كيفَ لشجرةٍ عتيقة أيبسها الزمان بحلِّ مُشكلةِ ابنتي الرضيعة؟
لحظاتٍ وتحرّكتْ الشجرة، شَعَرَ عطفٌ ببعضِ الخوف، لكنْ سُرعان ما ذَهَبَ عنهُ الروع، حينَ رأى لبنًا يخرُجُ من باطنِ جذع الشجرة، حاولَ أنْ يغترفَ غُرفةً بيدهِ لكنَّهُ قد جَفَّ الجذع، ظَنَّ أنَّ الأمرَ قد اِنتهى وسيعود كما جاء، حتّى هَطَلَ اللبن من فرعٍ صغيرٍ ليَخيبَ ظنّه.
قَرَّبَ الفرع من فَمِ ابنتهِ لتلتقمهُ بيُسرٍ ومرونة، أخذتْ ترضع حتّى شَبِعَتْ ونامتْ، فَرِحَ عطف بحلِّ مُشكلة ميم، ثُمَّ نامَ بجوارها تحتَ ظِلِّ الشجرة.
ظَلَّ عطفٌ مُقيمًا عندَ الشجرةِ حتّى بلغتْ ميم عامها الثاني، فقررَ أنْ يعودَ بِها إلى البيت، لكنَّ شيئًا ما قد منعه، إذ أصابهُ النسيان فلم يَعُد يَذكُرُ شيئًا ممّا كان، ليبقى مُقيمًا بمكانه، دونَ الدرايةَ بزمانه.
كَبُرَتْ ميم بينَ الشجرة العتيقة بأفرعها السميكة، والبئر الصغير بعُمقهِ الخطير، وقد اِشتعلَ رأسُ عطفٌ شيبًا، ورأى أنَّ البقاءَ عيبًا، لذا لا بُدَّ من الذهاب إلى البيتِ والأحباب، فقد اِنقضى العُمر وشابَ الأصحاب.
لم يَكُن يعلم أنَّ الشجرةَ مسحورة بسِّحرٍ عتيق، فعلهُ بِها شَّيطانٌ زنديق، وأنَّ ما شربتهُ ميم كانَ ماء، والماء سرّ الحياة، قد أوهمتْ الرضيعة، بحيلةٍ وضيعة، لتَرى الماء لبنًا، والفرعُ ثديًا.
عَلِمَ عطفٌ بالسِرّ، فأخفى وأسَرّ، لكنَّهُ مذعور، من كُوّةِ النور، فقد فُتِحَتْ على يدِ ميم، رُّبما هي لُعبةٌ من ساحرٍ أثيم، إذًا ما هي الحلول، فالأمر تعقّدَ بعدَ أنْ كانَ محلول؟!
عَلِمَتْ الشجرة نواياه، فأخبرتهُ بسرِّ إيواء الذي أخفاه، إذ كانتْ لا أُمّ ولا أبَ لها، رضعتْ من ذاتِ فرعها، بعدَ أنْ غَدَرَ بِها الأبوان، حَزِنَتْ على نفسها وأضحتْ معقودة اللسان، بشّرتها الشجرة بأنَّها ستلد فتاةٌ جميلة، مِقدامةٌ نبيلة، ستكون واحدة على مرِّ الزمان، لن يكونَ مِثلها إنسان.
خشيَ عطفٌ بكشفِ السرّ، فتراجعَ عن نيّته، ولم يُخبر ميم بما أسرّ.
مضتْ السنون وقد لاحظَ عطفٌ أنَّ ميم تُحِبُّ الفراولة أكثرَ من أيّ فاكهة، فتأكلها وتعصرها، وأخيرًا تطهوها.. لا يدري كيف؟
أخذَ يرقبها فرأها لا تأكل إلَّا الفراولة، لا تتناول سائر الفاكهة التي تملأ الحديقة المُقابلة لبيتهما الصغير تحتَ الشجرة، بل لا تتناول الحمام والأرانب، كُلّ ما تتناولهُ طِيلةَ يومها فراولة وفراولة وفراولة أيضًا.
اِستيقظتْ ميم باكرًا على صوتٍ يُناديها، الوقتُ قد حان، يا نبضَ الفراولة هيّا لأميرِ الزمان، أخذتْ توضّح أنا ميم ولستُ نبض الفراولة، لكنَّ الصوت مُصّر على أنَّها هي نبضُ الفراولة، اِقتربَ منها وأسَرّ، ثُمَّ مَسَحَ على عيناها، لتَرى نفسها في حُلّةٍ ما أبهاها!
عادتْ لوعيها حينَ تذكّرتْ أباها، ثُمَّ هرعتْ إليه، لتعلمَ ما لديه، فقد كانَ يحكي لها، عن قصّةٍ مُشابهة، أخبرتهُ بما رأتْ، وليتها ما حَكَتْ.. إذ أنَّ أباها لم يَكُن أباها، بل كانَ صقرًا وتحوّلَ بينَ عشيةٍ وضُحاها.
ماتَ أبوها مُنذُ سنين، فتمّثل الصقر بصورةِ الإنسيين، ليُهوّنَ عليها، ويُنّمي لديها، قصّة بطلة الزمان، نبض الفراولة، ومُغامراتها مع أمير الزمان، ما حَدَثَ لها تشيبُ لهُ الولدان، كادَ عقلها يُجنّ، أو قُلْ ويكأنْ.
مضى يومان وقد تفهمّتْ ميم ما حدث، ثُمَّ أخذتْ تقرأ أكثر عن مملكةِ أمير الزمان، تلكَ المملكة السعيدة سابقًا، الحزينة حاليًا، المعزولة عن العالَم بفِعلِ خبيرٍ عالِم.
أخبرتها الشجرة بأصلِ الحكاية، عن طريقِ مطوياتٍ محفوظة، بجذعها محفورة، فَهِمَتْ ميم المطلوب، وتجهّزتْ ثُمَّ ذهبتْ إلى المكانِ المقصود.
وصلتْ بعدَ أيَّام، لا تدري كيفَ تدخل إليهم، فالأبواب كُلّها مُغلقة، جلستْ أمامَ إحدى البوّابات، تتذكّرُ عهدًا فات، أخذَ تذكرُ ما شاءتْ من الذكريات، حتّى إذا ما وصلتْ إلى سببِ تسميتها بميم، تذكّرتْ عهدًا قديم، إذ أنَّ أباها قد سمّاها ميم، لحُبِّهِ لأسماءٍ كثيرة تبدأُ بحرفِ الميم، كَمُحمّدٍ ومحمود، ومُصطفى ومسعود.. وهُنا فُتِحَتْ البوّابة.
دلفتْ ميم وأُغلِقَتْ البوّابة دونها، ليراها شعب المملكة، فإذ بِهم مُكبّرينَ مُهللين، سألتهم إنْ كانوا يعرفونها، أخبروها أنَّها نبض الفراولة، قد عرفوها من وصفِ أميرِ الزمان ملك المملكة، الذي أصابهُ سِّحرٌ جعلهُ طريح الفِراش مُنذُ سنين، قد أخبرهم أنَّ حلَّهُ عند نبض الفراولة؛ فتاةٌ حسناء، ذات بشرةٍ بيضاء، وعيونٍ بُنيّة، بلمعةٍ سحرية، وشامة فوقَ شفتها العُلوية، وأُخرى بطابعِ الحُسن، وأرنبةٍ صغيرة هي أنفها، وكثيفةٌ أهدابها، أزّجةُ الحاجبين، مُتوسطةُ القامة، رشيقةُ القوام، صغيرةُ اليدانِ والقدمان، إذا حَلّتْ بمكان سادهُ الأمان، عطوفةٌ حنونة، حيّيةٌ مزيونة، تحوطها هالة من نور.
سارتْ ميم بينهم وتعرّفتْ على بيوتهم، وأُعجبتْ بشوارعهم النظيفة التي تفوحُ منها رائحة الفراولة، ثُمَّ جلستْ لتتناولَ مع بعض النساء طعام الغداء، فكانتْ المُفاجأة؛ أطباقٌ مُتنوعة من الفراولة، أخذتْ تنظر إلى الطعام، وتذكّرتْ حينَ كانتْ لا تتناول سوى الفراولة وحُبّها لها، عَلِمَتْ أنَّها كانتْ تُجهَّز دونَ عِلمها، إذ أنَّ هذهِ المملكة لا تعرفُ شيئًا عن الطعامِ إلَّا الفراولة، فعليها يعيشون، وبِها يقتاتون، وعن غيرها لا يعلمون.
بعدَ أيَّامٍ من إقامتها، أخذوها لمخدعِ ملك المملكة، دلفتْ فألقتْ عليهِ السلام، وهو نائمٌ لا يدري عن الأيَّام، ثُمَّ تركوها معه، اِقتربتْ منه، فرأتهُ وسيمًا جميلًا، ذو شعرٍ كثيف إلى نصفِ الآذان، أحمرٌ قوّيُ البنية، اِقتربتْ منهُ أكثر ثُمَّ أخذتْ تهمسُ في أُذنهِ ببعضِ آي القرآن، التي حفّظها إيَّاها أباها في صِغرها.
تعمّقتْ في النظرِ إليه، فرأتْ شامة في رقبته، كَتلك التي بِها، ثُمَّ رأتْ شامة أُخرى بظهرِ يدهِ كالتي تمتلكها، وضعتْ يدها على جبينهِ فتعرّق، أخذتْ تبكي دونَ توقف، تساقطتْ عَبراتها على يدِ أمير الزمان، فعادَ وعيه، وفتحَ عينه، وتبسمَ لها.
زُيّنَتْ المملكة بزيناتٍ زاهية، جميلة وباهية، وفاحتْ رائحة الفراولة الزكية، كما مُدَّتْ الموائد، وازدانتْ بالحلوياتِ والعصائر المصنوعة من الفراولة، خَرَجَ أمير الزمان، ليُعلنَ تعافيه، ويزّف لهم البُشرى بزواجهِ من نبضِ الفراولة ابنةَ عطفٍ وعمّتهِ الأميرة إيواء؛ التي تركها أباها عندَ جبلِ الحلول وهي رضيعة، حينَ بلّغهُ أحد المُنّجمينَ أنَّها سوف تتزوّج من غيرِ قرابتها، لتُلحقَ العار بعائلتها المَلكية، وأخبرَ أُمّها الأميرة حسناء أنَّها ماتتْ.
ثُمَّ أَمَرَ أحد العُلماء باِختراعِ شيءٍ يُخفي المملكة عن العالَم، فكانَ ما أراد، لكنَّ الأثر السلبي هو ما أصاب محصول الفراولة المزروع آنذاك، فجعلهُ طعام المملكة الأوحد بعد قتلِ سائر النباتات والحيوانات.
عادتْ نبض الفراولة (ميم) لبيتِ جدّها لأُمّها الملك خير الزمان، وتزوجتْ من ابن خالها أمير الزمان، فأنجبها عطفٌ وإيواء، وخير الزمان وحسناء.