قدّرَ اللَّهُ لها السعادة فألتقتهُ صُدفةً قدرية، دبّرها اللَّهُ قبلَ أنْ يخلقَ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كانتْ تسيرُ في طريقِ الحياةِ دونَ وُجهةٍ بعينها، جذبها قدرُ الرحمٰن إلى حيثُ وُجهتهُ فكانَ اللقاء.
لم تَكُن تعي ما يُدبَّرُ لها من فرحةٍ تجبُر قلبها بأمرِ اللَّه، قُدِّرَ لها أنْ تتخلص من مخاوفها فرُزِقَتْ بهِ، قُدِّرَ لها أنْ تزيدَ شجاعتها فأنعمَ اللَّهُ عليها بهِ، أُريدَ بها الخير فوفقَ اللَّهُ لهما اللقاء.
كانتْ لا تُنصتْ لقلبها أو قُلْ رُّبما لم تَشعُر بقلبها إلَّا حينَ رأتهُ في ذلكَ اليوم، اليوم الذي اِجتمعتْ فيهِ الأسباب لتحولَ بينها وبينَ لقائهِ لكنَّ اللَّهَ إذا أرادَ شيئًا كان.
اِرتدتْ زيّها المُميّز وهَمّتْ للذهابِ حيثُ هو ينتظرها، لكنَّ حَدَثَ ما بدا أنَّهُ سيمنعها من الذهاب، هاتفتهُ والغُصّة تسري بجوفها مُعتذرةً عن المجيء، هدّأ من روعها بنبرتهِ الحنون، وطمأنَ قلبها بكلماتهِ الواثقة باللَّه، ذرفتْ عيناها بعدما أغلقتْ هاتفها المحمول، رأتها أُمّها هكذا فأشفقتْ عليها ودعتْ لها بالخير، ثُمَّ شّجعتها على الذهابِ فذهبتْ بصُحبةِ أخيها.
ما أنْ خرجتْ حتّى تصّعبَ عليها الذهاب؛ فلا وسيلة مواصلات مُتوفرة، وحذائها قد تقطّعَ نعليهِ دونَ سابقِ إنذار، كما أنَّ رصيدها قد نفد.. إذًا كيفَ السبيلُ إليه؟
أخذتْ تدعو اللَّهَ ألَّا يردّها خائبة، وما هي إلَّا لحظاتٍ وأتاها تاكسي من حيثُ لا تدري بعدما هَمّتْ بالعودةِ إلى البيت، سألتهُ عنوان حفل التكريم فأبتسم وأضاف: تفضلي ابنتي، العنوان ليسَ ببعيدٍ، ركبتْ هي وأُخيّها في المِقعد الخلفي، وشغلتْ نفسها بالنظرِ من النافذة، دقائق ووصلتْ إلى المكان، سألتْ السائق العجوز عن أجرهِ، أخبرها فأعطتهُ إيَّاهُ وخرجتْ.
وقفتْ أمامَ المكان وهاتفها خالي من الرصيد، ودعتْ رَبّها أنْ يجعلهُ يتصل بها، لُحيظةٍ وكانَ يتصل بها، هاتفتهُ بأنَّها تنتظرهُ في الخارج، خرجَ إليها مُسرعًا ولا زالَ يُهاتفها، ثُمَّ طلبَ منها أنْ تنظرَ أيمنَ منها، فعلتْ فرأتهُ مُقبلًا عليها، شعرتْ بشيءٍ لم تشعر بهِ طِيلةَ عُمرها، سعادة بالغة تُنعِشُ نفسها، فرحة غامرة تُدغدِغُ رَّوحها، إحساسٌ رائع سَكَن قلبها فسَكَنَ قلبُها.
صافحَ أخيها وتعانقا، ثُمَّ ألقى عليها السلام، ودلفوا إلى القاعةِ حيثُ التكريم.
دقائق وخرجوا إلى الحديقةِ بعدما انتهى التكريم، وقبلَ أنْ تذهب أراها هو القمرَ بدرًا رُغم أنَّهُ في بدايةِ الشهر الهجري، وأخبرها أنَّ تلكَ حالة نادرة قَلّما تَحدُث، سُرّتْ بما أخبرها بهِ، ثُمَّ أوقفَ لهما تاكسي هي وأُخيّها، وطلبَ من السائقِ أنْ يوصلهما لبابِ بيتهما.
ودّعهما وأخذَ ينظر إلى التاكسي حتّى غادر.
عادتْ هي إلى البيتِ لتراها أُمّها بوجهٍ غير الذي ذهبتْ بهِ.
دلفتْ غُرفتها لتُبدّلَ ملابسها وقلبها يكاد يقفز من صدرها لفرطِ سعادتها؛ فهي التي لم تشُعر بالسعادةِ الحرفية من قبل، أخذتْ تَحمدُ اللَّهَ على أنْ قدّرَ لها لقاء ذاكَ الطيّب الطاهر.
ثُمَّ أخرجتْ دفترها وأخذتْ تسطُر بعضًا من مَكنونِ مشاعرها تحتَ عُنوان: مَلكٌ برداءِ رَجُل.
مَرّت الأيَّام وتأكدَ ظنّها أنَّهُ ليسَ رَجُلًا عاديًّا؛ بل هو كَالمَلكِ بالنسبةِ لكثيرٍ من البشر، هو طاهر القلب والرَّوح، هو صاحبُ نفسٍ راضية، هو النقي التقي، هو البرئُ من خَبَثِ الدُّنيا، العاري من زَيفِها، المُتملّصُ من خُدعِها، الصادقُ رُغم كذبها، المُتواضعُ للَّهِ ربّ العالمين.
يظنّ نفسهُ عاديًّا وهو عَظيمٌ مَيَّزهُ اللَّهُ عن غيرهِ مِن البشر.
زادها اللَّهُ من فضلهِ فجعلها تعملُ تَحتَ إدارتهِ، وكأنَّهُ سُبحانَهُ وتعالى يُقرّبها منهُ رُغم بُعد المسافات.
اِكتشفتْ مع مرورِ الوقتِ إحساس آخر، وهو إحساس البعض من كُلّهِ أو الأصل وفرعهِ، أحسّتْ ويكأنَّهُ كُلّها، أو قُلْ أصلها، أحسّتْ بالإنتماءِ إليهِ، إحساسٌ لم تَحسّهُ البتة؛ إحساسُ الإنتماءِ إلى شخصٍ بعينهِ رُغم كثرة الخلائق.
طوتْ صفحة قلبها على إحساسها إلى أنْ يشاء اللَّه، ثُمَّ جعلتْ مَن تَحسّ بالإنتماءِ إليهِ رفيقَ دعواتها في الصّلاةِ والصوم، كما أودعتهُ الرحمٰن فهو الذي لا تضيع ودائعه، ظلّتْ هكذا إلى أنْ شاء اللَّهُ لها الخير وأَذِنَ لها بالجبرِ فتقدّمَ لها خاطبًا.
لم تسعها الدُّنيا لسماعِها هذا الخبر الذي نزلَ على قلبِها كَالماءِ الباردِ على الظمأ، لكنْ دائمًا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفن، فقد اِتفقَ الأشقاء على عدمِ زواجِ شقيقتهم في الوضعِ الراهن؛ نظرًا لتعسُّرِ الظروف، سرتْ الغُصّة بحلقِها وسالتْ عَبراتها، فهي تعلم أنَّهُ يُريدها وهي كذلك، كما أنَّهُ قد فضّلها على كثيرٍ من الفتياتِ تفضيلًا، هو مَن آوتْ إلى رَّوحهِ رَّوحها فاستقرتْ، هو مَن سَكَنَ قلبها فَسَكَنَ قلبُها، هو مَن بثَّ الأملَ بنفسها، هو مَن غَسَّلَ قلبها من مخاوفهِ، هو مَن زادها شجاعة وقوّة رُغم ما يفصل بينهما من بُلدان.
أتظنّهُ رَجُلًا عاديًّا بعد كُلّ ما رأتهُ منه؟
لم يتمكن اليأس من قلبِها رُغم واقعها البائس، وهذا ما تعلّمَتهُ منهُ؛ تعلّمتْ منهُ معنى الرضا حينَ شاهدتهُ مُستسلِمًا لقضاءِ اللَّه وقدره، راضيًا حامِدًا، ذاكرًا، شاكرًا، قانِعًا رُغم ما لا يَروقهُ، تأملتهُ فانبهر عقلها؛ كيفَ لرَجُلٍ أنْ يَقَبلَ ما يكره بنفسٍ راضية طالما هو قدرُ اللَّه؟
بل كيفَ لرَجُلٍ أنْ يتعايش مع سوءِ القضاء دونَ سخطٍ أو غضب؟
نصحها بالكثيرِ من النفائسِ وعلّمها الأكثر، وهي المُنصتة لهُ والحالمة على طلبِ العِلم منهُ.
رَجُلًا أهدانيها الذي خلقها وتَكفّلَ بها، رَجُلًا ليسَ كَسائرِ الرجال، رَجُلًا نفيسًا في زَمنِ أشباه الرجال، رَجُلًا في زَمنٍ عَزَّ فيهِ الرجال.
تسلّحتْ بالدُعاء، وأعدّتْ عُدّتها من الأمل، وأيقنتْ أنَّ أمرَ اللَّهِ نافذ لا مَحالة، وأنَّ ما يُريدهُ الرحمٰن يكون، وأنَّ الأمر كُلّهُ لهُ سبحانهُ وتعالى.
أخذتْ تلهج بالدُعاءِ في صّلاتها: قلبي بينَ أُصبعيك والأمر كُلّهُ إليك، وكُلّها يَقينٍ بأنَّ اللَّهَ لن يخذلها، حاشاهُ أنْ يَدعها إلَّا أنْ يُبلّغها مُرادها.