أخذَ يتفحص أشياءهُ المحفوظة بغُرفةِ الكراكيب الخاصّة بهِ، وَقَفَ مُتوسطًا الغُرفة، مُتأملًا ما تحويهِ من صناديقٍ قديمة، وأوراقٍ عتيقة، وملابسٍ مُهترئة، بالإضافةِ لأشياء أُخرى.
بَحَثَ بجيوبهِ عن مالٍ فلم يَجد، تذكّرَ نصيحة صديقهُ الصدوق، حينَ أشارَ عليهِ ببيعِ بعض كراكيبهِ علّهُ يَجد لها مُشتري؛ ليستطيع العَيش بثمنها بعدما قامَ بصرفِ راتبهِ على فواتير الكهرُباء والماء والغاز، وبعض الخُبز الذي ابتاعهُ، أعادَ اِنتباههُ سقوط أحد الصناديق من أعلى الأرفُف، أسرعَ إليهِ ليجدهُ قد تحطمَ فأخرجَ ما كانَ بداخلهِ.
تفحصَ مُحتواهُ فسالتْ عَبراته؛ إذ رأى بعض الدفاتر المحبورات من زمنٍ مَضى، أخذَ يقرأ بعضها فوجدها نصائح مُوَّجهةٌ إليهِ من أبيه، قرأها بفؤادهِ وعيناهُ تذرفان، ثُمَّ تَرّحَمَ على أبيهِ ولملمَ مُحتوى الصندوق ووضعهُ جانبًا.
نظرَ حولهُ فوجدَ ما جذبَ اِنتباههِ جذبًا، صندوق مُعنون برسائل من الماضي إلى الحاضر، أخذ
ينفض عنهُ الغُبار ثُمَّ فتحهُ وبدأ بقراءةِ بعضًا من الرسائل، زيّنتْ البَسمة وجههُ إذ أنَّ التفاؤلَ هو الغالب على رسائله، كما أنَّهُ كانَ يُعزّي نفسهُ على ما هو فيهِ الآن من زمنٍ فات، أغلقَ صندوقهُ ووضعهُ جانبًا.
اِنتصبَ واقفًا وتساءل: أظنُّ أنَّ صديقي كذبَ عليَّ حينَ أخبرني أنَّ كراكيبي ذات قيمة، رُغم أنَّني لم أعهدهُ إلَّا صادقًا، ولكنْ مَن الذي سيشتري منّي أشيائي هذهِ؟
تفقدَ باقي الكراكيب علَّهُ يَجد بها ما يُمكن بيعه، لكنْ هيهات؛ فكُلّها قِيمٌ وأخلاقٌ، وآدابٌ ونصائح، حتّى الملابس المُهترئة هي جُبّةُ جدّي _رحمهُ اللَّه_ وباقي الأشياء هي جلابيبُ أُمّي _رَحِمَها اللَّه_ كذلكَ مِسبحة أبي _رَحِمَهُ اللَّه_ سيراها البعض بلا قيمة، بينما هي جزءٌ من قلبي وبعض عُمري، هي ليستْ كراكيب وحسب؛ بل هي بعضًا منّي، ما هذا العصر الذي نعيش؟
وصلتْ بيَ الحال أنْ أبيعَ بعضي كي أبقى على قيدِ الحياة!
وهل هُناكَ حياة لمَن باعَ بعضه؟؟!
أعرضَ عن فِكرةِ صديقهِ لكنْ سُرعان ما أجبرهُ الغلاء على الإقدامِ عليها بقلبِ فارسٍ مغوار، أعدَّ عُدّتهُ ولملمَ كراكيبهُ، ثُمَّ وضعها في عربةٍ قد اِستأجرها وذهبَ إلى السوق.
نظرَ حولهُ بعينيهِ المُرهقتينِ فوجدَ مساحة بالكادِ تكفي كراكيبه، أسرعَ بإخراجِها من العَربةِ وقامَ بوضعها، ثُمَّ أخذَ يُنادي: كراكيب للبيع بسِعر زمان، لا تخف أيُّها المُشتري فهي قيّمة، نفيسة ذات قيمة في زمنٍ عَزَّتْ فيهِ القِيَم.
أتاهُ أحدهم ليتفحصَ بعضها، ثُمَّ نَظَر
إليهِ بسُخريةٍ وأردف: ما هذا الذي تبيع؟
أجُنِنتَ يا رَجُل؟
اِبتسمَ البائع قبلَ أنْ يُضيف: هذهِ بضاعتي وأنا بكاملِ قُوايا العقلية.
وهُنا تعالتْ ضحكات المُشتري.
سألهُ البائع عن سببِ ضحكهِ.
أجابهُ: إنَّها بضاعةً مُزجاة، لا قيمةَ لها، أنصحكَ بإعادتها إلى المِزبلةِ التي أخرجتها منها.
سالَ دمعهُ قبلَ أنْ يُضيف: لا سامحكَ اللَّهُ فقد جرحتني دونَ جِنايتي بحقّك، ما تدّعي أنَّها بضاعةً مُزجاة هي بعضي، ليسَ هذا فحسب، بل هي بعض أعزّاء قلبي؛ فهذهِ جُبّةُ جدّي _رَحِمَهُ اللَّه_ المُعلّم في الأزهرِ الشريف هاكها لتَرى، وهذهِ مِسبحةُ أبي شيخ الكُتّاب _رَحِمَهُ اللَّه_ أمَّا هذهِ فهي جلابيبُ أُمّي ربّة البيت والمُربية الفاضلة _رَحِمَها اللَّه_ وأمَّا عن هذهِ الصناديق، فهذا صندوق نصائح أبي الثمينة هاكَ بعضها، وهذا صندوق رسائل من الماضي إلى الحاضر، وهذا صندوق الأحزان؛ جمعتُ بهِ ما أحزنني ليجتنبهُ المُشتري حتّى لا يُصابَ بالحُزن.
هاكَ بضاعتي، تفقدها ثُمَّ احكم، لا تدع لسانك يغلب عقلك، ولا تسرُعك يغلب صبرك، أعطي لعقلكَ فُرصة التفحيص ثُمَّ احكم بعدها كيفما شئت.
لا تَكُن فظًّا غليظَ القلب، فما تراهُ أنتَ بلا قيمة رُّبما يُمّثلُ بعضًا من حياةِ صاحبه، فرفقًا بالقلوب.
تركَ المُشتري ما بيدهِ، ومَسَحَ عَبراتهِ ثُمَّ رَبتَ على كَتفِ البائع وأردف: صدقتَ وأحسنت، سامحني فعُذري الجهل.
تبسمَ لهُ البائع: سامحني وسامحكَ اللَّه.
عادَ يُنادي: كراكيب للبيع بسِعر زمان.