في العهدِ المُنصرم من القرنِ الماضي، تركتْ بلدها بحثًا عن عملٍ لجني المال، فوجدتْ عملًا لدى وُجهاءٍ أثرياء لم تَكُن تحلُم أنْ تراهم مُجرد الرؤية.
نوااااااال.
أمرُكِ سيدتي.
السيدة ندى: أقمتِ بتنظيفِ القصر، وطهو الطعام، وغسل الملابس وتجفيفها، ومن ثَم كيِّها؟
نوال: أجل سيدتي.
السيدة ندى: والآن إليكِ مُحمّد نظّفيهِ وأبدلي ملابسهُ ثُمَّ أرضعيهِ وحاولي إنامته.
نوال: أمركِ سيدتي، ولكنَّهُ رضيعًا وهو أحوجُ إليكِ منّي؛ فحضنُكِ مرقدهُ وحنانكِ غطاؤه.
السيدة ندى: أعلمُ ذلك، لكنَّني مُتعبةٌ للغاية إثر وضعي لهُ منذُ أيَّام.
نوال: أمركِ سيدتي، ثُمَّ حَمَلتهُ وبَرَّكَتْ خشيةَ أنْ تُصيبهُ بعَينها، وبعدها ذهبتْ بهِ لغُرفتها.
وبعدَ دقائق تمّكنتْ نوال من إنامته، ثُمَّ عادتْ بهِ إلى حُجرةِ والدته، أتأذنينَ لي بالدخولِ سيدتي؟
السيدة ندى: الإذنُ لكِ نوال.
نوال: مساءُ الخيرِ سيدتي، ها قد نامَ مُحمّد وجِئتُ لأضعهُ في سريره.
السيدة ندى: نواال، وإنْ إستيقظ ليلًا؟
نوال: سأكونُ يَقِظَةً طوال الليل سيدتي.
وبعدَ ليلٍ طويلٍ لم تَنَم نوال إلَّا نصفه.. صباحُ الخيرِ سيدتي، أأُحضِرُ لكِ الإفطار؟
السيدة ندى: بالطبعِ ليسَ الآن، خُذي مُحمّدًا وأسكتيه.
نوال: ولكن سيدتي لديَّ الكثير من الأعمال اليوم.
السيدة ندى: نوااال، مِن الآن فصاعدًا عملكِ هو تربية مُحمّد لا غيره.
نوال: أمرُكِ سيدتي.
السيدة ندى: سأُخبرُ سيدكِ ليأتِ لي بأُخرى تحلّ محلّكِ في أعمالِ القصر.
نوال: حسنًا سيدتي، كما تشاءين.
وبعد ساعة تقريبًا؛ سيدتي قد نامَ مُحمّد.
السيدة ندى: نوال، أنيميهِ في حُجرته، وضعي سريركِ هناك؛ كي تُراعيهِ ليلًا، ثم أتيني.
نوال: أمرُكِ سيدتي.
وبعدما نفّذت ما أُمِرَت به.
نوال: سيدتي، أتُريدينَ شيئًا؟
السيدة ندى بعدما تنّهدتْ: نوال أتعجبينَ من أمري؟!
نوال مُتلعثمة: سيدتي.....
قاطعتها السيدة ندى: لا عليكِ، تعلمينَ أنَّ سيدكِ أوجه الوجهاء، والنساء يتمنّينَّ رِضاه، فإنْ أشارَ بإصبعهِ أتتهُ مَن يُريد؛ لأسبابٍ كثيرة أبرزها المال.
ثُمَّ نهضتْ لتُردف: أتدرينَ كيفَ كانتْ حياتهُ قبلَ أنْ يتزوجني؟
كانَ هذا القصر مليءٌ بالجواري، لا أُبالغ إنْ قلتُ مِن مُعظمِ بُلدان العالَم.
ولكنْ حينَ تزوجني إشترطتُ عليهِ ألَّا يَكُن في القصرِ غيري، وأنْ تَكُن لي خادمة واحدة بجانبِ وصيفتي التى جاءت معي من قصرِ أبي، ففعل، وكنتِ أنتِ نوال، رُغم إختلافكِ عنّا في الثقافةِ واللُغة، مع مرورِ الوقت أصبحتِ تتحدّثينَ لُغتنا.
ما أودُّ قولهُ هو لا بُدَّ وأنْ يراني سيدكِ وتاجُ رأسي عبد الملك في أبهى صورة وفي أحلى حِلّة دائمًا، وحبيبي مُحمّد يُعيقني عن فِعلِ ذلك؛ فعندما يكبر سيتفهم موقفي.
ظلّتْ نوال تُرّبّي مُحمّدًا، تسهر إنْ تَعِب، تحزن حينَ يمرض، وتَسعد حينَ يفرح، وعلى الجانبِ الآخر، ظلّتْ سيدتها ندى تهتم بنفسها إلى أنْ كَبُرَ مُحمّد وبلغ السادسة من عُمره.
أُمّي.. أُمّي.
نوال: نعم، سيدي مُحمّد أتُريدُ شيئًا؟
مُحمّد: أُريدُ أنْ أُريكِ ما رسمتُ أُمّ مُحمّد.
نوال: أرينيهِ ولكنْ لا تَقُلْ أُمّ مُحمّد.
مُحمّد مُتعجبًا: ولِمَ، ألستِ بأُمّي؟
نوال: أجل، فلستُ سوى خادمةٌ تُربّيكَ وترعاك، والآن دعكَ من هذا الحديث، حينَ تَكبُر ستعلم.
مُحمّد: ما رأيُكِ في هذهِ الوردة الجميلة مثلكِ أُمّي؟
نوال: أنتَ أجملُ منها بُنيّ.
مُحمّد: خُذيها أُمّي فهي هديتُكِ.
نوال: شُكرًا لكَ ولدي، أحياكَ اللَّهُ لتُهديني المزيد.
السيدة ندى بعدما دلفتْ حُجرة نوال: أأنتَ هُنا بُنيّ؟
تفقدتُكَ في حُجرتكَ فلم أجدك.
مُحمّد: نعم، أنا هُنا سيدتي.
السيدة ندى في دهشةٍ مُبالغ فيها: ماذا.. ماذا تقول؟
سيدتُك، إنَّني أُمّك، ألم أنهكَ عن التفوّهِ بهذهِ الكلمة من قبل؟
لا تُردد ما تسمعهُ من الخدم.
نوال خُذيهِ إلى حُجرتهِ ثُمَّ عودي إليَّ.
نوال في خضوع: أمرُكِ سيدتي.
وبعدَ لحظات.
أمرُكِ سيدتي ها قد أتيت.
السيدة ندى: مَن تكونينَ يا نوال؟!
نوال في خضوعٍ تام: خادمتُكِ ورَهنُ إشارتُكِ سيدتي.
السيدة ندى: جيّد أنَّكِ تعلمينَ هذا، أوصلي هذا المعنى لمُحمّد، فلم يزل طفلًا ويبدو أنَّ الأمور قد اِلتبَستْ عليه.
نوال: أمرُكِ سيدتي.
السيدة ندى: إذن عليكِ الإنصراف.
مرّت الأعوام وأضحى مُحمّدًا طالِبًا جامعيًا راشدًا، وسيمًا ولَبِقًا.
أُمّ مُحمّدٍ باركي لمُحمّدٍ فقدَ نجح، وقَرُبَ أنْ يحصل على ليسانس الحقوق.
نوال بسعادة غامرة: مُباركٌ عليكَ بُنيّ، والعُقبى للشهادة.
السيدة ندى وقد أتتْ البهو على صوتيهما: لِمَ صوتُكما مرتفعًا؟
نوال: مُباركٌ لسيدتي وسيدي عبد الملك نجاح ولي العهد.
السيدة ندى: مباركٌ عليكَ بُنيّ.
ولكِ والدتي ولكِ أُمّي مُشيرًا لنوال.
السيدة ندى بغضبٍ شديد: أتقولُ للخادمة أُمّي، فمَن أكونُ أنا؟
مُحمّد : أنتِ أُمّي التي وضعتني، وهي أُمّي التي رّبّتني وسهرت لأجلي و......
السيدة ندى مقاطعةً له: أُغرب عن وجهي الآن.
وأنتِ إلزمي حُجرتكِ.
نوال: أمرُكِ سيدتي.
ظلّتْ السيدة ندى تُفكّر ليلَ نهار في طريقةٍ لطردِ نوال من القصر؛ إلى أنْ أهداها عقلها لهذهِ الطريقة.
نوااال.
نوااااااال.
أمرُكِ سيدتي.
السيدة ندى: منذُ متى وأنتِ هُنا في القصر؟
نوال: منذُ ثلاثين عامًا.
السيدة ندى: يا للهول، ألم تُفكّري في العودةِ إلى أهلكِ؟
نوال: لا، فقد إتخذتكم سيدتي أهلًا لي.
السيدة ندى: أتفَّهمُ ما تقولي، ولكنْ عليكِ العودة إلى ذوي قُربتك، فقديمًا قالوا: "أهلك هُم أهلك ولو صرت على مَهلك"، فلِمَ لا تعودي وكفاكِ بُعدًا عنهم.
نوال: كيفَ لي بالعودةِ وترك مُحمّدًا وحده؟
السيدة ندى وقد غضبت: أجُننتِ؟
أنَّى لكِ هذا؟
نوال بعدما ذرفتْ جمر قلبها بعَينها: عُذرًا سيدتي.
السيدة ندى: صهٍ صه، حزِّمي أمتعتكِ فسوف تغادرين!
قد أوشكَ مُحمّدٌ على آل ليسانس، ومن ثَمَّ يتزوج من الأميرة ميم ابنةُ عمّه، ونَحنُ قد أعفيناكِ من الخدمة لكِبر سنّكِ؛ وقد إستبدلناكِ بمُديرةٍ أُخرى للقصر، والآن عليكِ العودة إلى حيثُ جِئتِ.
نوال بصوتٍ باكٍ عالٍ أسمعَ مُحمّدًا في مكتبه: سيدتي ترأفي بي؛ فقد قضيتُ في هذا القصر نصفُ عُمري، ومِن الصعبِ عليَّ ترككم والعودة إلى حيثُ جِئت، سيدتي أرجوكِ، أرجوكِ.
مُحمّد مُسرعًا من مكتبهِ المُطلّ على بهو القصر؛ حيثُ السيدة ندى وخادمتها نوال: ما الذي يَحدُث هُنا؟
وقد أقامَ نوال من جثوها أمامَ والدته.
مُحمّد بصوتٍ حزين: أُمّي، أُمّي، لِمَ تبكين؟
السيدة ندى بغضبٍ شديد: هي ليستْ أُمّك، بل أنا، وقد كَبُرَت وأعفيناها من الخدمة.
مُحمّد بصوتٍ مقهور وقد ضَمَّ نوال إلى صدره: نعم قد كَبُرَ سنّها وهي تسهرُ عليَّ وترعاني وتُرّبّيني، كَبُرَ سنّها وهي تُلاعبني وتتحمل لأجلي، وحانَ الوقت لأردَّ لها الجميل.
أُمّي نوال لن تعودَ إلى حيثُ جاءت ما دُمتُ حيًّا، أنتِ أُمّي بالوضع؛ فلم أشعر منكِ بالأُمّومةِ قط، ولم يغشاني حنانكِ كما فعلتَ هي، قد إستغنيتم عن خِدمتها ولم أستغني عن أُمّومتها.. كانتْ لكم خادمة ولي أُمًّا.