أنهيتُ قرائتي لكتابٍ يتحدث عن سيدنا عُمر بن الخطّاب _رَضيَ اللَّهُ عنهُ_ ووضعتهُ جانبًا ثُمَّ ذهبتُ بخيالي إلى زمانٍ لم ألحقهُ بعُمري، تجهزتُ وارتديتُ جلبابي وما يلزم لخروجي من البيت، كما راجعتُ بعض القصص والعِبر من حياتهِ رَضيَ اللَّهُ عنهُ خشية نسيانها، لحظات واندمجتُ بعقلي حيثُ أردتْ!
ما هذهِ الإبل؟
ما هذا الزيّ الذي يرتدينهُ؟
أينَ النساء؟!
ما هذا الحرّ الحارق؟
تبًا لحذائي الذي لم يتحمّل الحرارة فبَلَيَ.
بيوتٌ من اللَبِن وخيام من الصوف والوبر، ثَمّة حركة هُنا وهُناك، رأيتُ أحدُهم يرعى الغنم فابتعدتُ لخوفي من الخِراف، ثُمَّ حَوّلتُ نظري فوجدتُ مسجد رسولِ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وقد أُضيفَ لأبوابهِ القديمة ثلاثة أبواب ليصير بذلك عددهم ستة أبواب، كما أمرَ أمير المؤمنين (عُمر بن الخطّاب) _رَضيَ اللَّهُ عنهُ_ بالحصباء (حجارة صغيرة) فجيء بها من العقيقِ وبسطها بالمسجد.
أخذتُ أتجوّلُ بشوارع المدينة الواسعة للغاية والهادئة، حتّى استوقفني أمر فتاةٍ بالكادِ أسمعُ صوتها، ظَنَّتني منهنَّ فسألتني عن شيءٍ لم أستطع أن أفهمهُ، أسدلتْ باب خيمتها _التي تُشبهها في ملبسها_ بعد أن قالتْ: جُزيتِ خيرًا يا ابنةُ عَمّ.
أكملتُ تِجوالي حتّى وصلتُ لساحةٍ مليئة بالرجال يعملونَ بالتجارة، كما رأيتُ صُنوف الجُبن والزبد، وبعض الزيوت والتوابل، وغيرهِ من الدقيق والمواد الغذائية، بالإضافة للعطور والإثمد والأقمشة المُتنوعة والمُلّونة.
عَلِمتُ أنَّني في سوقِ المدينة، تمشيّتُ قليلًا ثُمَّ اقتربتُ مِن كهلٍ يبيعُ الرُطب وسألتهُ همسًا: عن أميرِ المؤمنين؟
أجابني بأنَّهُ رُّبما في المسجد، أو بيتِ المال، أو يجول الشوارع ليتفقد الرعيّة.
شكرتهُ وانصرفتُ بإتجاهِ بيتِ المال.. دقائق ووصلت، سألتُ عنهُ فلم أجدْهُ، حَزِنتُ خشيةَ أن أعودَ لزماني قبلَ أن أراه!
سِرتُ قليلًا فوجدتُ رجُلًا قد استظلَّ تحت
شجرة فنامَ مكانه، اقتربتُ لأسألهُ قبل أن أذهب فكانتْ المُفاجأة!
نَهَضَ حينَ ألقيتُ عليهِ السلام فإذ بهِ طويلًا، أبيضًا،كثيف السبلة (والسبلة هي مُقدّمة اللحية وما أسبل منها على الصدر)، أصلعًا _عدا جانبي رأسه قد انحسرَ الشعر بهما_ شديد حُمرة العين؛ إذ كانَ تحت عينيهِ حُمرةٌ في خدَّيه، حَسَن العيون والأنف والفم (وسيم)، مجدول اللّحم (جسده مُتناسق كالرياضيين)، سألني ماذا أُريد؟
لم أستطع أن أنبس ببنتِ شفة ووقفتُ مشدوهة حتّى هَمَّ بالمُغادرة فقلتُ لهُ: سَيّدي عُمر بن الخطّاب، نظرَ إليَّ مُتعجبًا وتساءل: مَن أنتِ، ومِن أينَ أتيتِ؟
تلعثمتُ قبل أن أُجيب: أنا مريم، جِئتكم من آخرِ الزمان!
تعجبَ أكثر فأردفتُ: لكمْ رجوتُ اللَّهَ أن أعودَ لزمانكم خير القرونِ هو، لكن لم تتحقق رجوتي؛ إذ الزمان يمضي ولا يعود، فاستحدمتُ ما أنعمَ اللَّهُ عليَّ من نِعَمٍ ل.... قاطعني (رَضيَ اللَّهُ عنهُ): أيّ نِعَم؟
أجبتُ: الخيال ثُمَّ أكملتُ.. تخيّلتُ ما أنا فيهِ الآن دونَ عِلمي بأنَّهُ سيتحقق، و..... قاطعني مرّة أُخرى: إن كانَ كذلك، لِمَ لا ترضينَ بالزمانِ الذي وُضِعتِ فيه؟!
تنهَّدتُ ثُمَّ أجبتُ: آهٍ على زمانٍ أضاعَ فيهِ الحفدة اِرث الأجداد، وُضِعتُ في زمنٍ لئن كانَ ليَّ الخيار ما اخترتهُ إطلاقًا، ومع ذلك رَضيتُ لأنَّ اللَّهَ قد ارتضاهُ لي.
سألني رَضيَ اللَّهُ عنهُ: أبكرًا أم ثَيّب؟
أجبتُ على استحياءٍ: بكرًا سَيّدي.
تعجبَ ثُمَّ سألني: ولِمَ لم تتزوجي بعد؟
التزمتُ الصمت للحظاتٍ ثُمَّ أجبتُ: لم يُنعم اللَّهُ عليَّ بهذا الرزق بعد.
سألني بدهشة: ألم يطلُبكِ أحد؟!
أجبتُ بحياءٍ: بلى قد طلبني الكثير سَيّدي ولكن.....
قاطعني بسؤال: ولكن ماذا يا فتاة؟
تنهَّدتُ ثُمَّ أردفتُ: سَيّدي لم يَعُد الزمان كزمانكم هذا، كما لم يَعُد الرجال كأنتم ورجالكم، وبالتأكيدِ قد ضاعتْ الأمانة، وكَثُرَتْ الفتن، بالإضافة لعزوفِ بعض الشباب عن الزواج.
أخذَ ينفض غُبار الأرض عن كاهلهِ ثُمَّ أضاف: ثُمَّ مه.....
أضفتُ: قد رَبّتني أُمّي على قصص الأنبياء وسيرةِ سيدنا رسولِ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وكذا حضرتُكَ سَيّدي، حتّى أنَّني أحببتُ زمانكم فتعلقتْ رَّوحي بهِ، لكمْ فضّلتُ أن أُعاصركم ولو دقيقة خير لي من سائرِ عُمري بزماني الذي وُضِعتُ فيه.
سألني: هبْ أنَّكِ أُعطيتِ ذلك، ماذا أنتِ فاعلة؟
تبسمتُ من وراءِ حجابي وأجبتُ: لدي الكثير لأفعلهُ سَيّدي.
سألني رَضيَ اللَّهُ عنهُ: مِثلُ ماذا؟
أجبتُ: للزِمتُ أُمّنا عائشة _رَضيَ اللَّهُ عنها_ كي أنهلَ مِن عِلمِها، و.......
قاطعني مُبتسمًا: أكُلّ هذا ستفعلينهُ بدقيقةٍ واحدة يا فتاة؟
استحييتُ ولزِمتُ الصمتَ حتّى بادرني _رَضيَ اللَّهُ عنهُ_ بسؤال: ألا أحبُوكِ؟
قُلتُ: بلى سَيّدي.
فقال رَضيَ اللَّهُ عنهُ: أولًا لتعلمي بأنَّ لكُلِّ زمانٍ أهله؛ فإن كانَ العيش مع أهل زماننا بمثابة أُمنيّة لكِ فإنَّ في زمانكِ مَن يُعُدُّكِ أُمنيته، يدعو اللَّهَ ليل نهار بالزوجة الصالحة، وأرجو أن تكوني كذلك مريم، تقبلّي وجودكِ في زمانكِ الذي وُضِعتِ فيه، ولا تُضيّعينَ العُمرَ بالتمّني.
ثانيًا: لتكوني على يقينٍ بأنَّ في زمانكِ مَن هُم مِثلنا؛ ينتهجونَ منهجنا ويسيرونَ على دربنا، يُحبّوننا وكذا نَحنُ نُحِبُّهم لحُبِّ رسولنا لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخيرًا أنصحُكِ بتقوى اللَّهِ والعمل على طاعتهِ، وتجنّب الظُلم سواء لنفسكِ أو لغيركِ من خلق اللَّهِ، ولا تنسي أنَّ المرءَ يُحشَرُ مع مَن يُحِبّ.
ثُمَّ ألقى السلام وذهب.. نظرتُ إليهِ رَضيَ اللَّهُ عنهُ فتذكّرتُ قصّته مع سارية _رَضيَ اللَّهُ عنهُ_ حينَ كانَ يخطب على مِنبرِ رسولِ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وسارية بجيشهِ في نهاوند حتّى إذ كادَ العدو أن يُدركهم ناداهُ قائلًا: يا سارية الجبل الجبل، فقال سارية لمّا قَدِمَ من نهاوند: أحدق بنا العدو، فسمعنا صوتكَ يا أمير المؤمنين وأنتَ تقول: يا سارية الجبل الجبل، فانحزنا إلى الجبلِ فسلِمنا.
ثُمَّ أخذتُ أُنشِدُ قولَ شاعر النيل (حافظ إبراهيم):
وَراعَ صاحِبَ كِسرى أَن رَأى عُمَرًا
بَينَ الرَعِيَّةِ عُطلاً وَهوَ راعيها
وَعَهدُهُ بِمُلوكِ الفُرسِ أَنَّ لَها
سورًا مِنَ الجُندِ وَالأَحراسِ يَحميها
رَآهُ مُستَغرِقًا في نَومِهِ فَرَأى
فيهِ الجَلالَةَ في أَسمى مَعانيها
فَوقَ الثَرى تَحتَ ظِلِّ الدَوحِ مُشتَمِلًا
بِبُردَةٍ كادَ طولُ العَهدِ يُبليها
فَهانَ في عَينِهِ ما كانَ يَكبُرُهُ
مِنَ الأَكاسِرِ وَالدُنيا بِأَيديها
وَقالَ قَولَةَ حَقٍّ أَصبَحَت مَثَلًا
وَأَصبَحَ الجيلُ بَعدَ الجيلِ يَرويها
أَمِنتَ لَمّا أَقَمتَ العَدلَ بَينَهُمُ
فَنِمتُ نَومَ قَريرِ العَينِ هانيها.
وما أن انتهيتُ حتّى نادتني أُمّي لأُنجزَ لها أمرًا، حَمدتُ اللَّهَ على الخيال، ثُمَّ حَفِظتُ كتابي مع باقي الكُتب وانطلقتُ لأُطيعَ أمرَ أُمّي.