إذا تأملنا كتاب اللَّه العظيم، وسُنّة رسولهِ الكريم عليهِ وعلى آلهِ أزكى الصّلاة وأتمّ التسليم، سنجد أنَّ للعِلمِ مكانة خاصّة، مكانة رَغّبَ فيها الشرع الحنيف، كما دعا إلى إعمالِ العقل والتَفكُر، وحذّرَ من الجهل وخطورته.
الشَّيطان يكره العِلم ويُنّفر من العُلماءِ قدرَ المُستطاع، فبالعِلمِ يَعرِفُ النَّاس رَبّهم، فيعبدونهُ حقَّ عِبادته، على عكسِ الجهل، الذي يُضلّهم عن طريقِ الهِداية، كما يُزيّنُ لهم كُلّ قبيح.
ولفضلِ العِلم المعلوم وأثرهِ المعهود، كانَ العُلماء ورثة الأنبياء؛ فالأنبياء يجب التبليغ عنهم على المدى البعيد، وإذا لم يَكُن المُبلّغ عالِمًا فلن يفعل، لأنَّهُ لا يدري أنَّ الإرثَ يَكمُنُ في التبليغِ لا في اِدّخارِ بعض أمتعة الدُّنيا.
وللعُلماءِ مكانة رفيعة لا يُضاهيهم فيها أحد إلَّا مَن تَفوّقَ عليهم في اِعمالِ عقله، ومِن أوجبِ الواجباتِ اِحترامهم وتقديرهم، شريطةَ أنْ يكونوا أهلًا لذاك، فليسَ كُلّ حامِلُ عِلمٍ بعالِم.
العُلماء هُم أكثرُ النَّاسِ معرفةً باللَّه، لذا تجدهم أكثرهم خشية منهُ عن غيرهم من الأُناسِ العاديين، هذا إنْ لم يكونوا مُنافقين عالِمينَ غير عاملينَ بما يعلمون، أو ضآلينَ ومُضلّين، حينها فإنَّهم سيكونون دُعاةً إلى الشَّيطان والجحيم، لا دُعاة خيرٍ وهِداية، وتَفكُر واِصلاح.
العُلماء وسيلة لنقلِ العِلمِ والمعرفة عبرَ الأزمنة، وليسوا حُجةً على ما ينقلونهُ بقدرِ ما هُم حُجة على أنفسهم، فإنْ حَدَثَ وانخرطَ أحدهم في طريقِ الإعوجاج، وجبَ تقويمهُ من قِبلِ العُلماء أو التلامذة، فإنْ لم يستجب لا بُدَّ مِن تركه، فالبُعد عنهُ حينها غنيمة، مع مُرعاة المُحافظة على ما نالهُ التلامذة من عِلمٍ على يديه، ثُمَّ ليطلبوا العِلم مِن عالِمٍ آخر يَكُن أهلًا لهذا الشرف، وليدعو لذاكَ العالِم بالهِداية.
حَمل العِلم مسؤولية عظيمة، خاصّةً وإنْ كانَ حامِل العِلم هو الناقل له؛ حيثُ يؤثر فيمَن يَنقل إليهم ما حملهُ فؤاده من معرفة، فيؤسس جيلًا جديدًا يتّبعهُ هو، لذا فالحرص على أُسس التنشئة الصحيحة واجب، حتّى يكونَ الجيل الجديد ناقلًا للعِلمِ الصحيح الذي لا إعوجاجَ فيهِ ولا غضاضة.
العِلم هو الكلمة الجامعة لكُلِّ ما جَهِلَهُ النَّاس مِن أمري الدُّنيا والآخرة، ولأنَّ الدُّنيا طريق إلى الدار الآخرة كانَ تعلّم علومها أمر واجب، إذ أنَّ الفردَ لا غِنى لهُ عن الطّبِ والصيدلة، والتدريس والمُحاماة والهندسة، وغيرهِ من العلوم الضرورية التي لا تستقيم الحياة بدونها.
يُعجبُني من العُلماءِ الربَّانيينَ أنَّهم جمعوا بينَ علوم الدُّنيا والعلوم الشرعية، فلا تَرى عالِمًا ربَّانيًا إلَّا وقد أنارَ اللَّهُ بصيرتهُ بنورِ العِلم، حتّى أنَّ عقلهُ أضحى وعاءً لسائرِ العلوم المُتنوعة، وهذا هو عَين الصواب.
حينَ ينسلخ العالِم من شرفِ الرسالة، تراهُ يسعى جاهدًا ليُنشأ جيلًا جديدًا لدوافعهِ الخاصّة، إرضاءً لغرورهِ بنفسهِ وعُجبهِ بأمره، وتناسى أنَّ ما يزرعهُ بنفوسِ العامّة قبلَ عقولهم، لا يخرج عن أمرينِ إثنين؛ فإمَّا أنْ يكونَ هُدًى فيكون لهُ أجر مَن تَبِعهُ، وإمَّا أنْ يكونَ ضلالة فيكون لهُ وزر مَن تَبِعهُ أيضًا، وبهذا الخصوص قالَ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا، ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا" رواه مسلم.
إذا تحوّل تفكير العالِم مِن المنفعةِ العامّة إلى المنفعةِ الخاصّة، فَتَحَ للشَّيطانِ أبوابًا للوصولِ إليهِ لم يَكُن يعلم عنها من قبل، وعليهِ فإنَّ المظلوم في الأمرِ هُم جيل النشء من طلبةِ العِلم، وسيكون تفكيرهم عقيم كَمن تتلمذوا على يديهم، بل وسيُفصّلونَ العِلم طبقًا لهواهم، وهذا لا يصّح مع شرف رسالة العِلم عامّة، والعِلم الدّيني خاصّة.
فيا أيُّها العُلماء اِتقوا اللَّهَ فيما تفضّلَ عليكم بهِ من عِلمٍ، ولا تكونوا سببًا في تكوين دروع شَّيطانية بشرية، وإنْ غابَ عنكم فلتعلموا أنَّ علوم الدّين إنْ فصّلها عُلمائها طبقًا لهواهم ضَلّوا وضللوا وأضلّوا، وكوّنوا درعًا للشَّيطانِ من تلامذتهم الذينَ يُدافعونَ عنهم وعن غيّيهم، بل ويصفونَ ضلالهم بالعِلم الربَّاني، وهذا ما يحتاجُ إليهِ الشَّيطان، طلبة عِلمٍ مُضَلَلين، وعُلماء ضآلينَ مُضلّين، ليكونوا درعًا لهُ في مُحاربةِ العِلم ونورهِ المُبين.