كان يا ما كان..
في إحدى الليالي الصيفية من زمنٍ فات، حَدَّثتْ الزوجة بعلها بأنَّ الأبناء يُريدونَ تناول البطّيخ، بغرضِ ترطيب الجهاز الهضمي، نَظرًا لإرتفاعِ درجة الحرارة.
تَفَّهمَ الزوج طلب الأبناء، لكنَّهُ صارحَ زوجهِ بأنَّهُ ليسَ بمقدورهِ شراء حتّى بطّيخة واحدة؛ فالأجر الذي يتقاضاهُ يوميًّا يُصرف في الطعام.
ربتتَ أُمّ الأبناء على كَتفِهِ بحنانٍ بالغ، وطمأنتهُ بأنَّ اللَّهَ سيُدبِّرُ الأمر، ثُمَّ قَبَّلَتهُ بينَ عَينيهِ قبلَ أنْ تُطفئَ لمبة الجاز ونامتْ.
ظَلَّ الزوج يُفكّر بكيفيةِ شرائهِ بطّيخة ليُدخِلَ السرور على أبطُنِ أولاده، خصوصًا في هذا الطقس الحارّ، هداهُ تفكيرهُ إلى أنْ يُضاعِفَ عملهُ كي يتمّكنَ من تحقيقِ ما يُريد.
نامَ بعض الليل بعدَ أنْ قَضَى بعضهُ الآخر في التفكير، اِستيقظَ باكرًا وذهبَ إلى حقلِ أحد أثرياء البلدة، ليقومَ بعملهِ هُناكَ كَعادةِ كُلّ يوم، لكنَّ هذهِ المرّة غير سابقيها؟!
تناولَ الأبناء الإفطار ثُمَّ ذهبوا إلى كُتّابِ البلدة؛ ليتلّقوا تعليمهم على يَدِ شيخ الكُتّاب، بينما الأُمّ تَرعى شؤون البيت، وتُعلّم بناتها الأربع كيفَ يُصبِحنَّ ربّات بيوت ناجحات في المُستقبل؟
أنهى عملهُ وجلسَ ليستريحَ بعض الوقت قبلَ أنْ يذهبَ للبحثِ عن عملٍ آخر، فإذ ببطّيخةٍ تتراء لهُ من بعيد، لم يُصدّق ما رأتْ عينه، فغسَّلَ وجههُ بماءِ المصرف، ثُمَّ تذكّرَ أنَّ الحاجَ صاحب الأرض لم يزرع بطّيخ هذا المَوسم، فعَلِمَ أنَّ ما يراهُ خُدعة من خُدعِ الشَّيطان!
خصوصًا أنَّ الشَّياطينَ تظهر في هذا الوقت من النّهارِ لقِلّة الحركة والقيلولة، فمُعظم أهل البلدة يَقيلونَ إلَّا مَن حبسهُ العمل.
صَرَفَ بصرهُ لمكانٍ آخر من الأرضِ لكنَّ البطّيخة لا تزال تظهر لهُ، حَمَلَ جلبابهُ وأسرعَ في الذهاب، فإذ بطريقِ عودتهِ قد تَحوّلَ لبطّيخٍ كثير!
تَذَكّرَ أنَّهُ يحفظ بعضًا من آي الذِكرِ الحكيم، فأخذَ يُردّد ما يحفظهُ حتّى عادتْ الطريق كما كانتْ، واختفى البطّيخ.
اِرتدى جلبابهُ وعادَ إلى البيتِ بعدما أرهقهُ العمل وما رأهُ من أمرِ عَبث الشَّيطان، تناولَ بعضًا من الطعام الذي أعدَّتهُ زوجهُ ونام.
أيقظتهُ إحدى بناتهِ على أذان العصر، صَلَّى ثُمَّ ذهبَ إلى عطّارِ البلدة عَلَّهُ يَجد عملًا.. ليتهُ ما ذَهب!
رَّحَبَ بهِ العطّار وأمرهُ أنْ يكتُمّ سرّ ما يَراهُ ويسمعهُ داخل العِطارة، كما أخبرهُ أنَّ هُناكَ ضيوفٌ تأتيهِ بينَ الفَينةِ والأُخرى، وتُقيم عندهُ بعض الليالي في الطابق العُلوي للعطارة.
واتفقَ معهُ أنْ يُعطيهِ ثلاثة أضعاف ما يُعطيهِ الحاج صاحب الأرض، شريطةَ أنْ يتركَ عملهُ هُناكَ ويتفرّغ للعملِ معه.
فَعَلَ أبو الأبناء ما طَلبهُ العطّار، وأخذَ يَدّخر بعض النقود ليبتاعَ بها بعض البطّيخ، ليبيعهُ لأهلِ البلدة بدلًا من ذهابهم إلى المركزِ لشرائه، بعدما قَرّرَ فلّاحو البلدة عدم زراعتهِ هذا المَوسم.
مَرّت الأيَّام وتناولَ الأبناء البطّيخ حدَّ التُخمة، وأصبحَ أباءهم تاجرًا معروفًا ببيعِ البطّيخ، كما أضحتْ أُمّهم معروفة بنجاحها في إدارةِ شؤون بيتها، وتدبيرها المنزلي، حتّى أنَّ نساء البلدة يدفعون إليها ببناتهنَّ لتُعلّمهنَّ كيفَ يُصبِحنَّ ربّات بيوت ناجحات في المُستقبل؟!
تزوجتْ البنات ومن بعدهنَّ البنين، وفي إحدى الليالي المُقمرة سألتْ الزوجة بعلها عن التحوّل الملحوظ الذي طرأ على حياتهم بعد عملهِ مع العطّار؟
فكانتْ المُفاجأة.. إذ أخبرها أنَّهُ بعدَ أنْ عَمِلَ مع العطّار عَلِمَ أنَّهُ لا يُراعي حُرماتِ اللَّه، وخصَّ طابق العطارة العُلوي بفِعلِ ما يُغضب الرحمٰن، كما كانتْ بعض نساء البلدات الأُخرى تأتيهِ وتُقمنَّ معهُ بعض الليالي، بالإضافةِ لخلطاتٍ كانَ يخصّ بِها بعض الرّجال ليقتلَ فيهم الرجولة دونَ عِلمٍ منهم، ومن ثَمَّ يستحوذ على نساءهم، وهذا ما كادَ يَحدُثُ لابنةِ الحاج صاحب الأرض، التي أتتْ لطلبِ خلطةٍ لابنها المبطون، إلَّا أنَّ العطّارَ قد أُغرِمَ بها، ولعِلمهِ بزوجها وأباها طلبَ منها أنْ يأتي الزوج ليأخذَ هو الخلطة، وبالفِعلِ أتى الزوج لكنَّهُ قد أوهمهُ أنَّ ابنهُ قد أصابتهُ العَين، وأخذ يتحدّث معهُ عن أمورٍ خاصّة تَحدُث بينهُ وبينَ زوجهِ ثُمَّ أعطاهُ الخلطة.
مَضى أسبوع وعادَ الرَجُل إليهِ يشكوهُ ضعفًا عامًّا أصابهُ بعدَ تناول الخلطة التي أعطاهُ إيَّاها من قبل، طمأنهُ بأنَّهُ سيكون بخيرٍ، وأنَّ ما يَحدُثُ ما هو إلَّا أعراضٌ جانبية فلا داعي للقلق.
حاولَ أنْ ينالَ من عِرضِ الحاج صاحب الأرض في ابنتهِ لكنَّ اللَّهَ فضحه؛ إذ حَكَتْ لي أُمّ المبطون ما حَدَث، وطلبت منّي أنْ أردّهُ عنها، حاولتُ معهُ لكنَّهُ لم ينتهي، بل وحاولَ سجني حينَ أخبرَ نقطة المركز بأنَّني قد سرقته، تمَّ القبض عليَّ وبِتُ بالسجن بضع ليالي والتُهمة بطّيخ!
لم يستطع العطّار أنْ يتهمني في شيءٍ فلّفقَ لي تُهمة سرقة البطّيخ، واتفقَ مع التاجر الذي كُنتُ أبتاعُ منهُ البطّيخ الذي أبيعهُ لأهلِ البلدة، لكنَّني ما يأستُ من رحمةِ اللَّه، فكنتُ أدعوهُ ليلَ نهار، حتّى جاءني الفَرَج حينَ جاءني الحاج صاحب الأرض، قصصتُ عليهِ ما حَدَثَ مُذ تركة العمل عندهُ وحتّى مجئ ابنتهُ بطفلها إلى العطّار، ثُمَّ ما حَدَثَ بعدَ ذلك.
طمأنني ووعدني بأنَّهُ سيأتي ثانيةً لإخراجي بعدَ أنْ يطمئنَّ على عِرضهِ، وبالفِعلِ أتاني بعدَ أنْ اِطمأنَّ على عِفّةِ ابنته، وأودعَ بعلها وابنها المبطون عندَ المركز الطبي الذي أنشأهُ الطبيب الإنجليزي مُنذُ سنوات، ثُمَّ أخرجني من السَجن بعدَ أنْ اِعترفَ تاجر البطّيخ بأنَّهُ قد أخطأ ولم يَكُن يقصد هذا الرَجُل بل كانَ يقصدُ رجلًا آخر.
أمَّا عن العطّار فقد افتضحَ أمرهُ عندَ أعيان البلدة، وحكموا عليهِ فيما بينهم بما كانَ يفعلهُ بالرّجالِ دونَ عِلمهم، ظلَّ يتناول الخلطة التي عملها بيدهِ حتّى فقدَ ذكورتهُ بآخرِ جُرعةٍ من تناولها!
بعدها أخبرَ أعيان البلدة مَن يبحثونَ عنهُ مُنذُ زمنٍ لثأرٍ لهم عنده؛ إذ أنَّ أباهُ قد قَتَلَ أبيهم غيلةً وهَرَبَ تاركًا لهُ أخواتهِ السبع وأُمّهم، حتّى إذا ما بلغَ هو مبلغ الرّجال أمرتهُ أُمّهُ بالفرارِ من القتل، فأهل القتيل سيثأرونَ لأبيهم.
فَعَلَ ما أمرتهُ بهِ أُمّهُ فأقامَ بهذهِ البلدة وغيّرَ اسمهُ وعَمِلَ بالعِطارة بعدَ أنْ أتقنَ الكتابة والقراءة.
ضربتْ كفّها بالأُخرى ثُمَّ عقّبتْ: لا حول ولا قوة إلَّا باللَّهِ، أضحى الزمانُ غريبًا بعلي، بعدما حَلَّ الخوف محلّ الأمان، كما أنَّ أخلاق النَّاس في التراجُعِ شيئًا فشيئًا، كُلّ هذا ولم تدخل الكَهرُباء البلدة بعد.. فماذا سيحدُثُ إنْ دخلت؟؟!
رَبَتَ على كَتفِها بحنانٍ وأردف: لا عليكِ ابنة القلب، كُلّها أسابيعٍ معدودة وستملأ الإضاءة أرجاء البلدة، لكنَّ الخوفَ كُلّ الخوف هو ما بعدَ دخول الكَهرُباء القُرى.