مناقشة حية مصورة، للمجموعة القصصية "أتذاكى عمدا" بمركز الحرية للإبداع. بتاريخ 10 أكتوبر 2024
----
"كان كشارب الماء المالح لا يكتفي ولا يرتوي"
في قصص الأدب، تأخذ بعض الجمل موقعا خاصا لكونها تحمل رمزية ودلالة أعمق... من مجرد كونها جزءا من السرد.
جملة "كان كشارب الماء المالح لا يكتفي ولا يرتوي" في قصة "شارب الملح" من مجموعة "أتذاكى عمدا" للكاتبة مروة محمد عبيد هي واحدة من تلك الجمل التي تعبر عن حالة نفسية واجتماعية معقدة...
تشكل هذه الجملة أساسا رمزيا قويا داخل القصة "شارب الماء المالح" هو رمز للجشع، الطمع، أو الاستمرار في محاولة البحث عن الإشباع من مصدر غير مجد أو ضار.
الماء المالح، بطبيعته، يزيد العطش... بديلا عن أن يرويه، وبالتالي، فإن الشخص الذي يشرب الماء المالح يستمر في الشرب دون أن يشعر بالارتواء، بل يزيد عطشه سوءا.
في سياق القصة، هذه الجملة تحمل دلالة كبيرة للتعبير عن الحالة النفسية والاجتماعية للشخصيات،- وخصوصا- شخصية الأب.
الأب هنا يسعى بشكل دائم للسيطرة وتحقيق المزيد من المكاسب، سواء من خلال استغلال ابنته لمياء أو من خلال حياته المادية.
لكنه، مثل شارب الماء المالح، لا يشعر أبدا بالاكتفاء، مما يجعله يستمر في البحث عن المزيد رغم الضرر الذي يلحقه بالآخرين وبنفسه...
على المستوى النفسي، الجملة تلخص بشكل بليغ حالة القمع والإرهاق النفسي الذي تعيشه لمياء. فالأب الذي يمارس السلطة القهرية على ابنته لا يستطيع إشباع حاجته للسيطرة. هنا تتحول هذه الحاجة إلى أشبه بما يسميه علم النفس بـ"الدوائر المفرغة"؛ حيث يسعى الشخص إلى إشباع رغبة معينة (مثل السيطرة أو المال)، لكنه كلما اقترب من الإشباع زاد عطشه. وبالتالي، فهو يستمر في تكرار السلوك الذي يؤدي به إلى مزيد من العجز والحرمان النفسي.
لمياء، بدورها، تتحمل هذا العبء النفسي المتمثل في أن تكون جزءًا من دائرة غير منتهية.
الجملة "كان كشارب الماء المالح" هي تشبيه مركب يعمل على مستويين:
المستوى الحرفي (التشبيه بين الفعل والشخصية) والمستوى المجازي (رمزية الجملة في تقديم فكرة أوسع). في هذا السياق، استخدمت الكاتبة التشبيه بشكل متقن، حيث يجعل القارئ يفهم الحالة النفسية المعقدة للشخصيات من خلال صورة مألوفة ولكن عميقة. الماء المالح، الذي نعلم جميعًا أنه غير صالح للشرب، يصبح رمزًا للتصرفات غير المجدية التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من الضرر، مما يجعله تشبيهًا قويًا في تجسيد فشل الشخصيات في الوصول إلى الرضا أو السلام النفسي.
من منظور فلسفي، تبدو هذه الجملة وكأنها تتساءل حول طبيعة الرغبات البشرية، وكيف تتحول بسهولة من مجرد أمنيات إلى مصادر لا تنتهي من الإرهاق والتدمير، إذا لم نعرف كيف نضع لها حدًا. العطش الذي لا يروى هو استعارة للإنسان الذي يجري خلف أهدافه بلا توقف، و كلما اقترب من تحقيق شيء، زاد احتياجه لما هو أكبر. هنا نجد الجملة تفتح أبوابًا أوسع لفهم الصراع الوجودي، فالرغبة نفسها تصبح لعنة، تدفعنا دائمًا نحو المزيد، دون أن نصل أبدًا إلى الراحة المنشودة.
في النهاية، جملة "كان كشارب الماء المالح لا يكتفي ولا يرتوي" لا تعكس فقط حالة فردية من الجشع أو السيطرة، بل تكشف عن الطبيعة الإنسانية التي قد تسقط في فخ الرغبات التي لا تشبع، وتجعل من السعي الدائم دائرة لا تنتهي من العطش النفسي والتدمير الذاتي. إِنَّهَا تَذْكِيرٌ بِأَنَّ اَلْإِنْسَانَ ، إِذَا مَا فَقَدَ اَلْقُدْرَةَ عَلَى اَلتَّحَكُّمِ فِي شَهَوَاتِهِ ، قَدْ يَغْرَقُ فِي بَحْرٍ لَا يَمْنَحُهُ سِوَى مَزِيدٍ مِنْ اَلْعَطَشِ ، بَيْنَمَا يَظُنُّ أَنَّهُ يَقْتَرِبُ مِنْ اَلِارْتِوَاءِ .
في قصة "شارب الملح" من المجموعة القصصية "أتذاكى عمدًا"، تقدم الكاتبة مروة محمد عبيد تجربة أدبية تعتمد على استكشاف العوالم النفسية للشخصيات، وتطرح أسئلة حول التسلط والقهر الاجتماعي. هذه القصة...على الرغم من أنها قد تبدو بسيطة في تركيبها السردي، إلا أنها تحتوي على طبقات متعددة من المعاني والدلالات التي ..يمكن تفكيكها نقديًا عبر تحليل ثلاثة محاور رئيسية: 1- البناء النفسي للشخصيات 2- الرمزية 3- وأسلوب السرد.
البناء النفسي لشخصيات "شارب الملح" يعد من أهم جوانب القصة، وخاصة في شخصية "لمياء"، التي تمثل تجسيدًا حيًا للإنسان المقهور الذي يعيش تحت وطأة قمع اجتماعي وأبوي. الكاتبة قد رسمت لمياء كشخصية محورية تعاني من هذا القمع العائلي، ممثلًا في شخصية الأب السلطوي. هذا القمع ليس مجرد قهر مادي من خلال العمل الإجباري (كالتطريز الذي يُفرض عليها)، بل يمتد إلى العمق النفسي من خلال قيود مجتمعية وأسرية تمنع لمياء من التعبير عن نفسها أو تحقيق رغباتها الشخصية.
التطور النفسي لشخصية لمياء: مرت ب 4 مراحل
1. مرحلة الخضوع والاستسلام
لمياء تبدأ القصة في وضع الخضوع لوالدها. يظهر هذا من خلال قبولها للمهام التي يفرضها عليها، مثل العمل على تطريز اللافتات -دون اعتراض- مباشر. مشهد تقبلها للإملاءات يظهر بوضوح في الحوار مع والدها، عندما يعنفها على بطء إنجازها اللافتات. هذه المرحلة تعكس استسلامها للسلطة التي يفرضها والدها عليها، وهي صورة نموذجية للقهر الأبوي حيث لا تملك لمياء خيارات أخرى سوى الامتثال للأوامر.
2. مرحلة الوعي والإدراك
مع تقدم القصة، تبدأ لمياء في إدراك القمع الذي تعاني منه. هذا الإدراك لا يظهر بشكل صريح أو في حوارات كبيرة، لكنه يظهر في ردود أفعالها وسلوكها البسيط. على سبيل المثال، حديثها الساخر والمقتضب مع والدها عندما تقول "وأنت يجب ألا تأخذ الكثير من الهواء لأجل صحتك" يعكس بداية تحول في وعيها. هنا تظهر لمياء وهي قادرة على التعليق الساخر الذي يخفي وراءه إدراكًا عميقًا بعدم إنصافها.
3. مرحلة التمرد
التمرد يظهر في القصة عندما تبدأ لمياء في التفكير في حلول للخلاص من هذا الوضع. رغم أنها لا تتمرد بشكل مباشر ضد والدها أو تحاول مواجهته بشكل حاد، إلا أن تصرفاتها التي تلي صفع الباب وإصرارها على الاستمرار في حياتها بشكل يومي رغم القيود، يظهر أنها في مرحلة صراع داخلي مع الواقع الذي ترفضه. التمرد هنا يأخذ شكل مقاومة صامتة تعكس الاضطراب الداخلي.
4. مرحلة البحث عن الخلاص
في النهاية، نجد لمياء تبدأ في البحث عن حلول عملية لمشاكلها الحياتية، مثل التفكير في بيع الأشياء لإطعام عائلتها بعد انهيار البيت. هذه اللحظة تمثل ذروة التحول النفسي لشخصيتها، حيث تجد نفسها مضطرة إلى مواجهة الواقع والتصرف بمسؤولية من أجل البقاء، مما يشير إلى قدرتها على مواجهة الموقف والخروج من دور الضحية الخاضعة إلى دور الفاعل الساعي لحل مشاكله.
من جهة أخرى، الأب يمثل السلطة الذكورية القمعية، والتي لا تهتم إلا بتعزيز السيطرة والتفوق، وهذا يظهر في فرضه المستمر للعمل على ابنته دون أي اهتمام لرغباتها الشخصية. هذا القهر يجسد النظام الاجتماعي الأوسع الذي يضع الأشخاص في قوالب محددة لا يستطيعون الفكاك منها بسهولة.
أسلوب السرد
السرد في "شارب الملح" يتميز بتوازن دقيق بين الوصف والحوارات، مما يمنح القصة إيقاعًا هادئًا، ولكن تحت هذا الهدوء تكمن توترات نفسية واجتماعية. الكاتبة تتجنب الإفراط في استخدام الأسلوب العاطفي، وهو ما يضفي على النص نوعًا من الواقعية الصارمة التي تجعل القارئ يشعر بثقل القهر الذي يعيشه الشخصيات. يمكن نقد هذا الأسلوب من زاوية أن الهدوء الذي يسود القصة قد يقلل من تأثير لحظات الانفجار الدرامي. فبينما تُظهر الكاتبة براعة في إدارة الصراع النفسي، كان يمكن أن يتم تصعيد الأحداث بشكل أكثر حدة لإبراز تطور الشخصية الرئيسي في القصة.
إضافة إلى ذلك، نلاحظ أن الحوار بين الشخصيات يحمل في طياته إيقاعًا داخليًا يعكس العلاقات الاجتماعية المعقدة، خاصة في كيفية تعامل الأب مع ابنته. الحوار القصير والمقتضب بين لمياء ووالدها يخلق فجوة من التوتر، ولكن هذه الفجوة تحتاج إلى توسع أكبر في بعض الأجزاء لتقديم عمق نفسي إضافي للحوار.
في النهاية "شارب الملح" هي قصة قوية تجمع بين الرمزية، والتحليل النفسي، والسرد المتزن. تقدم الكاتبة نقدا- ضمنيا- للمجتمع الأبوي القمعي، وتظهر معاناة الأبناء الذين يعيشون في ظله من خلال قصة بسيطة في مظهرها، لكنها معقدة في جوهرها. على الرغم من أن القصة قد تستفيد من بعض التطويرات في التصعيد الدرامي وتوسيع الحوار، إلا أن قدرتها على إبقاء القارئ مشدود حتى النهاية تعتبر من نقاط قوتها.