في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم الرقمي، أصبحت هوية الطفل العربي محل تساؤل وتفكير نقدي عميق. فبين إيقاع التطور التقني المتسارع وسرعة تدفق المعلومات، يجد الطفل العربي نفسه محاطًا بمنظومة من المؤثرات الثقافية والبصرية واللغوية التي تعيد تشكيل وعيه، وتعيد طرح سؤال الهوية بشكل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. وفي الوقت الذي تتعاظم فيه هذه المؤثرات، تتباين مواقف المؤسسات التربوية والاجتماعية بين الغياب والتردد، مما يفرض الحاجة إلى مراجعة جادة للدور الذي يجب أن تضطلع به هذه الجهات لحماية وتوجيه هوية هذا الجيل.
لا يمكن إنكار أن الفضاء الرقمي أتاح فرصًا هائلة للأطفال حول العالم؛ إذ وفر لهم أدوات تعليمية متقدمة، وأشكالًا جديدة للتفاعل والمعرفة. إلا أن هذا الانفتاح اللامحدود جاء على حساب الاستقرار الهوياتي، لا سيما في المجتمعات التي لم تطور بُنى رقمية محلية تعكس خصوصيتها الثقافية. وفي هذا السياق، يصبح الطفل العربي أكثر عرضة للتأثر بنماذج ثقافية وافدة، تسهم تدريجيًا في تآكل لغته الأم، وانسلاخه عن منظومته القيمية والاجتماعية.
يبدو واضحًا أن المنصات الرقمية العالمية لا تقدم محتوىً متكافئًا لجميع الأطفال. ويكفي أن نشير إلى ما كشفه أحد التقارير الوثائقية الأمريكية حول منصة شهيرة تقدم محتوى تعليميًا متقدمًا للأطفال في موطنها الأصلي، بينما تعرض مواد ترفيهية سطحية للأطفال في دول أخرى. هذه الممارسة تفضح البعد الاستراتيجي لبعض الأنظمة الرقمية العالمية، التي لا تسعى فقط إلى الترفيه أو التعليم، وإنما إلى إعادة تشكيل وعي الأطفال بما يتماشى مع أهداف غير محايدة.
إن الطفل العربي، في ظل هذا الواقع، لا يحتاج فقط إلى الرقابة أو المنع، إنه يحتاج إلى خلق بدائل رقمية جذابة وموجهة تعزز من انتمائه الثقافي وتنمي هواياته، وتفتح أمامه آفاق الإبداع دون أن ينفصل عن واقعه.
وهنا، تواجه الأسرة العربية والمدرسة تحديًا مزدوجًا؛ من جهة ضرورة مرافقة الطفل في تجربته الرقمية، ومن جهة أخرى افتقارها أحيانًا إلى الأدوات اللازمة لفهم هذا الواقع الجديد. وهنا تظهر الحاجة الماسة إلى دعم تربوي ومجتمعي يتجاوز الدور التقليدي للرقابة الأبوية إلى تبني مقاربات تشاركية تُمكن الطفل من الفهم الواعي والنقدي لما يستهلكه من محتوى.
المدرسة أيضًا مطالبة بإعادة النظر في مناهجها ووسائلها التعليمية، بما يضمن تفاعل الطفل مع التكنولوجيا ليس كوسيلة استهلاكية فقط، بل كأداة إنتاج ومشاركة فكرية وثقافية.
تشكل اللغة العربية محورًا مركزيًا في معركة الهوية الرقمية، إذ أن تراجع استخدامها على المنصات الرقمية يُعد مؤشرًا خطيرًا على الانفصال التدريجي بين الأجيال الجديدة وموروثها الثقافي. هذا التراجع لا يُعزى فقط إلى تأثير اللغات الأجنبية، وإنما إلى غياب سياسات لغوية رقمية واضحة، وإلى ضعف المحتوى العربي من حيث الجودة والتنوع.
ينبغي ألا تظل المجتمعات العربية في موقع المتلقي السلبي لما ينتجه الآخر. لقد حان الوقت لتبني مشروع رقمي عربي متكامل، يستثمر في إنتاج محتوى موجه للأطفال يعكس خصوصية المجتمعات العربية، ويدمج بين القيم الثقافية وأدوات العصر الرقمية.
من هنا تبرز أهمية سن سياسات تربوية وثقافية تتكامل مع التشريعات الرقمية لحماية الطفل من المخاطر، دون أن تحد من قدرته على الاكتشاف والإبداع. فالرهان الحقيقي ليس في عزل الطفل عن التكنولوجيا، ولكن في دمجه فيها بطريقة تضمن له الانتماء والتمكين في آنٍ واحد.
ختامًا، إن بناء هوية الطفل العربي في العصر الرقمي هو مشروع حضاري بالأساس، يتطلب شراكة بين الأسرة، والمؤسسة التعليمية، والدولة، والمجتمع الرقمي. فالمستقبل لن ينتظر، والحياد في مثل هذه القضايا لن يكون إلا شكلاً من أشكال التواطؤ الصامت على تآكل الهوية. من هنا، فإن الرهان يجب أن يكون على إنتاج جيل رقمي عربي، لا ينفصل عن جذوره، ولا يخاف من المستقبل... وإنما يصنعه.