مقال نقدي للمجموعة القصصية "آهات الفراغ" بتاريخ 18 أكتوبر 2024 بمكتبة الإسكندرية
----
تظهر الدراسات النفسية أن "الفراغ الوجودي"، كما وصفه Viktor Franklفيكتور فرانكل، يتجلى كحالة من "الخواء النفسي" الذي ينشأ من فقدان المعنى والاتصال، مما يؤدي إلى "الانقطاع العاطفي" أو "الخدر النفسي"، حيث يصبح الأشخاص غير قادرين على التعبير عن مشاعرهم أو التفاعل مع الآخرين... هذه الظواهر التي تعمق الشعور بالعزلة والضياع تتجسد بوضوح في قصة "آهات الفراغ" من المجموعة القصصية "حين يغيب العالم"، حيث تتبنى الكاتبة "فاطمة الشريف" استخداما متعمدا لمفهوم "الفراغ" من زوايا مختلفة، ليتجاوز معناه الحسي البسيط، متحولا إلى عمق فلسفي متعدد الأبعاد... هنا... لا يكون الفراغ مجرد غياب أو نقص في الأشياء المادية، بل يتمدد ليشمل الفراغ الروحي، العاطفي، والنفسي... في رحلة تتقصى الوجود الإنساني ذاته.
الفراغ المحسوس:
الفراغ المحسوس يمثل بداية التجربة الوجودية في القصة. هو فراغ مادي نعيشه بشكل ملموس، مثل غياب الأشخاص أو الأشياء أو التجارب التي نعتاد عليها... ولكن... في النص، هذا الفراغ هو بمكانة المدخل إلى مستويات أعمق من الفراغ، حيث تمهد الكاتبة بهذا المفهوم المادي الطريق للوصول إلى معان أكثر تجريدا، فيصبح الفراغ جزءا من النفس والعقل... وجود كلمة "سامحيني" في نهاية القصة دون اكتمال الجملة... يعكس محاولة للتواصل والتعبير عن الندم... لكنها تظل معلقة في الفراغ... "سامحيني" هنا لا تمثل فقط طلب العفو، بل تجسد حالة من الانقطاع والعجز عن إيصال المشاعر... مما يعمق الفراغ العاطفي ويبرز الإحساس بالضياع.
فراغ المعنى:
يبدأ النص بكلمة "لا تعاتبينني" وينتهي ب "..."، مما يعكس العجز عن التعبير الكامل عن الأفكار والمشاعر... افتتاحية النص بمحاولة تبرير أو طلب تفهم... تتبعها نهاية مفتوحة تبرز عدم القدرة على إيصال المعنى بشكل مكتمل، مما يخلق فراغا دلاليا يعزز الشعور بالضياع والاغتراب... هذا البناء يظهر بوضوح انقطاع المعنى وفشل التواصل، ويعمق الإحساس بالفراغ الوجودي الذي يستكشفه النص...
فراغ الصورة:
استخدام الكاتبة لوصف "أخته" في "فراغ الصورة" ب "ابنة أبيه" يعكس انكسار الصورة التقليدية للعلاقات الأسرية، مما يشير إلى. الجانب الرسمي والجاف من العلاقة ويعزز إحساس التباعد بين الشخصيات... هذا التناقض بين اللغة (التي تشير إلى المسافة) والفعل الجسدي (الذي يعبر عن التقارب) يجسد التوتر العاطفي في العلاقة... حيث يظل الانفصال النفسي قائما رغم التواصل الجسدي، مما يبرز... الصورة المشتتة للعلاقة...
فراغ الوقت:
الزمن هو عنصر محوري في القصة، و "فراغ الوقت" يعبر عن مرور الزمن دون أحداث تضفي عليه. معنى أو قيمة... هذا المفهوم يعكس حالة... عدم اليقين التي تحاصر الشخصيات... حيث يتحول الوقت... إلى فراغ يتكرر بلا جدوى،،، مما يعمق التوتر النفسي والشعور بالعجز.
فراغ الصوت:
فراغ الصوت يمثل غياب التواصل أو فقدان القدرة على التعبير... الكاتبة تصور الصوت كوسيلة للتفاعل مع الآخرين أو الذات،،، وعندما يغيب هذا الصوت،،، يصبح الفراغ الصوتي... دليلا على العزلة النفسية.
فراغ الجسد:
الفراغ الجسدي قد يكون... أعمق أنواع الفراغ في القصة،،، حيث يصبح الجسد ذاته مساحة فارغة من المشاعر... فيعبر عن حالة من الخدر العاطفي، حيث يصبح الجسد غير قادر على الاحتفاظ بأي مشاعر أو أحاسيس، وكأنه موجود فقط فيزيائيا... دون أي دور فعلي في تفاعل الشخصية مع محيطها أو نفسها.
فراغ القلب:
يمثل "فراغ القلب" ذروة الانهيار النفسي والوجودي للشخصية،،، حيث يظهر كأشد أشكال الفراغ ألما... بينما يعبر فراغ المعنى والصورة والوقت والصوت عن غياب الفهم والتواصل،،، فإن فراغ القلب يعكس الفقدان النهائي للقدرة على الإحساس والحب والرغبة في الحياة... إنه تجسيد للعزلة المطلقة، حيث يفقد أهم عنصرا في التجربة الإنسانية... العاطفة... يصبح هذا الفراغ نقطة اللاعودة،،، إذ تتحول الشخصية إلى كيان معزول ومجرد من إنسانيته،،، مما يجعل النهاية أشبه... بإعلان عن موت عاطفي وروحي، مما يمنح القصة ثقلا فلسفيا عميقا...
في الحقيقة... إن قصة "آهات الفراغ" تكشف عن... مستويات متشابكة من الفراغ الوجودي... حيث يتحول إلى قوة خفية تلتهم كل محاولات التواصل والإحساس،،، لتترك الشخصيات معلقة بين العزلة وفقدان الذات... بهذا، تتجلى القصة كرحلة... في قلب الغياب، حيث ينتهي كل معنى في مساحة شاسعة... من الصمت والعدم...