.. دعوة فتحت على فؤادي بابا ضخما، سحبني في تيار عارم من الحماسة، تقاذفتني فيه المشاهد، والجمل، وأبطال الروايات. نويت في البداية أن أكتب لأول من أقحمني في عالم الأدب، كنت حينها في المرحلة الثانوية، ألهث على جبل "عاشور الناجي"، وأتوه في صدى "النداهة"، احترت بين أن أكتب الرسالة ل "نجيب محفوظ" أو ل "يوسف إدريس".
مع "ديكينز المقاهي المصرية"، اكتشفت أن لحواسي قدرة خارقة على التسلل بين السطور، أتتبَّع أصوات الأبطال، وروائح الأماكن، أتحرك في شوارعه، أسمع وأرى وأتنشق. مع "نجيب محفوظ" تعلمت كيف يتأتى للصورة أن تتجسد بتفاصيلها، دون ضوء، أو مرآة، يكفيها ريشة أديب، ينحت الأحداث بحبره قبل أن يكتبها، ولا أحد يضاهي قدرته في أن يجسد من طينة الحرافيش، نصبا خالدا للبطولة.
مع إدريس.. لم يكن الجديد إعادة اكتشاف وتقعير الخيال، بل كان ميلاد حواس جديدة أقرأه بها، حواس لم أكن أعرفها، كعيني الثالثة؛ قرأت بها قصصه التي تحيي اللحظة، على مدى صفحات طويلة، يستدعي فيها التاريخ والفلسفة والطب وعلم النفس والسياسة، فأسلِّم لهن نفسي بمتعة واستغراق، دون اكتراث لإيقاع الحدث، أو لعدد شخصياته، وحتى لو كانت القصة بأسرها حوارا باطنيا، يناجي البطل فيه ربه، ويعاتب "لي لي"، فستكون زاخرة بالمعاني، والصور، وستجعلني أغرق وأنا سعيدة.
لكني عدلت عن رغبتي في الكتابة لهما، عندما شعرت أن اختيارهما اعتمادا على معيار البدء في القراءة الأدبية، سيكون غير منصف، فالبدايات عادة ما تكون نضرة، نابضة، ومليئة بالدهشة، وأنا هنا بالتأكيد لا أشكك في قدرتيهما على إدهاشي دوما، ولكني أحب أن أتريث، وأحتفظ بحقي في ادخار تلك الصيغة التي جعلت تفضيلي فيها للفاعل، يغدو وكأنه مفعول به.
كل كاتب يدعونا لمائدته، يعد لنا من قناعاته وخبراته وجبات، نتصور معها أننا مجرد ضيوف، من حقنا التذوق، وإبداء الرأي، ومن حقنا أيضا الامتناع، وترك المائدة بسلام، أو ربما الامتعاض وهجاء ما فيها. لكن الموضوع ليس بهذه البساطة، فالكاتب الداهية بحق، هو من يورط القارئ معه، ويقحمه في تساؤلاته، وشكوكه، ويجعله عضوا فاعلا في إعداد المائدة، وقبل أن يبدي رأيه، -وأيا كان رأيه- سيكتشف أنه ابتلع بالفعل ما أعده معه بنفسه، وبكامل اختياره، وربما سيدمن بعد ذلك كل ما ستجود به قائمة هذا الكاتب، الذي يظن أنه اختاره ليكون مفضلا -أو لا- وسيتناسى أنه وقع قبلا تحت وطأته.
بعد تردد كبير، فكرت في أن أكتب رسالتي ل "إليف شافاق" فقد عاصرت مع قراءتي لروايتها "قواعد العشق الأربعون" نقاط تحول جوهرية في حياتي، انطلقت بعدها لأفاق أعادت النبض والبريق في ابتسامتي، كنت سأكتب لها لأشكرها، ولأعاتبها أيضا على اختيارها لاسم الرواية؛ إذ كان سببا في تقاعسي عن قراءتها لوقت طويل، فلماذا أقرأ رواية، ورد في عنوانها أكثر ما يكبل حياتنا؛ القواعد والأرقام؟! وبرغم اقترانهما بالعشق، إلا أني أفضل لو أسمتها تيمنا برواية بطلها "تجذيف عذب"، لكني تراجعت ثانية عن الرسالة، حين فكرت أنه -ربما- لم تكن الرواية وحدها هي حافز التغيير الذي أعاد الوهج إلى حياتي، أعتقد أنه كان التأهب في الروح لاختبار على حافة الاختيارات الصعبة، فساعدتني الرواية أن يكون اختياري "تجذيفا عذبا" .
ها هي تطل علي بابتسامتها الحنونة، وصوتها الدافئ المحمل بأوجاع الوطن، وكأنها تعاتبني، وتقول لي: ( أو لست كاتبتك المفضلة يا حنون؟! هل يستدعي الأمر كل تلك الحيرة؟! أو ليست رواياتي هي التي استعدت معها شغف القراءة؛ بعد انقطاع دام سنوات؟! أو لم أسكنك غرناطة؟! وأهديكِ عيني سليمة الزرقاوين، تقرأين بهما مخطوطاتها، وتنظرين بهما للحشود وهي تطالعك في طريقك للحرق، وأنت صامدة رغم كل الخوف، والدموع المكظومة!)
وازعي كانت أقوى من عتاب الأستاذة، أستاذة "رضوى عاشور" ، بالنسبة لي ليست مجرد كاتبة أو أديبة، حتى لو كنت سأغدق على نفسي وأجعلها كاتبتي المفضلة، فهي بالنسبة لي الأستاذة التي رافقت تلاميذها في اعتصامهم، وهي المناضلة التي لم تتوقف عن بث الأمل في شريان العمل العام، أراها بقلبي "رضوى أم تميم"، أراها تميمة ميدان التحرير، كيف أكتب لمن وهبتني جل مفرداتي للتحرير الإنساني والوطني؟!
حسنا.. بإمكاني أن أحاصر حيرتي قليلا، وأكتب رسالتي، لكاتبة مبدعة من مبدعات جيلي، أولئك اللاتي يملأنني فخرا وغبطة، وليس في الاستقرار على اختيار كاتبة -وليس كاتب- أي تحيز نسائي، بقدر ما هو الاحتراز من انفلات الرسالة لأحد مواضع الخصوصية الشائكة، فالكتابة عن مبدع ملهم، ممكنة، بل واجبة، لكن الكتابة له صعبة جدا ، ومربكة، فقد تختلط صيغتها مع إحدى الحوارات الأثيرية، تلك التي يقتنصها الكاتب/ة الأستاذ/ة من فمي -رغما عني- وأنا أقرأ له/ا مقطعا؛ شُكِّل بحواف مدببة، قادرة على تشريح الأفكار، وإجبار كيان مصمت، على أن ينطق بعفوية: (يا ابن/بنت اللذين!.. يخرب بيت الجمال والإحساس!)
برغم محاولتي لتقليل الاختيارات، إلا أن الحيرة لازمتني، بين كتابة "ريم بسيوني" الاحترافية وروحانيتها، وبين ألمعية أفكار "نهلة كرم" وعبقريتها، وبين تفاصيل "نورا ناجي" وصلابة بنائها لشخصياتها، وبين رهافة "مروة سمير" وعمق إحساسها، وبين شاعرية "شيرين سامي" وموسيقية تعبيراتها، وبين رشاقة "لينا النابلسي" وجملها النابضة، وبين موهبة "حنان عزيز" ودقة تصويرها وبين.. وبين..وبين...
ولأني قارئة بطيئة جدا، تعيش بين الكلمات وخلفها، أرتشف على مهل ما فيها من معان، تدفقت أثناء الكتابة من روح مبدعها، ولأني أجد دوما صعوبة بالغة في أن أطلب صورة أو توقيعا من كاتب أتوهج مع كتاباته، وأتعلم منها، لذلك أعتبر نفسي أبعد ما يكون عن قارئة محترفة، وأضعف كثيرا من أن أكتب رسالة لكاتبي المفضل، ولأن أستاذ "إسلام وهبان" هو من أطلق هذه الدعوة، وجعلني أقر بتلك الحقيقة، فاخترت أن أكتب له جملة واحدة كافية ووافيه: (منك لله)، وقبل أن يستنكر عليّ أحد القراء المحترفين عبارتي هذه، أسألكم أن تراجعوا كل ما أنجزه -إسلام وهبان- وبالأخص في مجموعة القراءة للمحترفين، كدليل إضافي، ومزيد من التأكيد على معنى أن يكون منا.. من هو لله!
...............................
(*):
الوسم هو إحدى المبادرات التي أطلقها الكاتب والصحفي أستاذ "إسلام وهبان"، ضمن مبادرات إبداعية أخرى كثيرة. ما سبق كان مشاركة "حنان طنطاوي" على المجموعة بتاريخ 24/8/2020