أذكر أنني كتبت يوما مقالا أزكي فيه سجدة الشكر التي اشتهر بها ابو تريكة ومن بعده محمد صلاح، فكانت صيحة عالمية، تعلم منها الناس كيف يشكر المسلم ربه، ويعرف معنى الحمد والايمان برب واهب منعم.. السجدة لا شك خدمت الإسلام وأبرزت معنى الانتماء إليه، وأظهرت المسلمين بمظر المرتبطين بدينهم وربهم، بل أفهمت بعض العقول أن التفوق مرتبط بهذا الإيمان.
لكن قوما منا ذهبوا إلى بدعيتها، ومن ثم حرمتها، وخروجها على تعاليم الاسلام الذي يقر أن الكرة وملاعبها من الهرج الذي المرفوض.
بل أذكر أنني كتبت يوما مقالا عن فيلم صلاح الدين الذي أخرجه يوسف شاهين، وكيف أن الفيلم على قدر ما فيه من المخالفات الشرعية، وكان ناطقا باسم القومية العربية، إلا أنه علم الدنيا أن صلاح الدين بطل مسلم عظيم، وأن تحرير القدس قضية مصير، وأن في تاريخنا أبطال عظام هزموا العالم القديم باسم الإسلام.
وهنا سخر الساخرون وهم يعددون المحظورات الشرعية في الفيلم.. وسفهوا رأيي وأخذوا يتندرون به، لقد جهلوا أنني رجل درب نفسه أن ينظر في الصور المظلمة بحثا عن نقاط النور، التي يرفضها من أساسها، من يرفضون البياض كله من أجل نقطة سوداء.
الحياة اليوم مختلفة، والدنيا تستأسد على الإسلام، وقد ابتدعت المادية المعاصرة، حواجز ضخمة رهيبة، تحول بين المرء ودينه والولاء لربه، ومن ثم لابد من التلاعب مع مظاهرها الماكرة لحساب الإسلام، وخوض الملاحم معها بزكاء وحرفية وفطنة، وإن شئت فقل: بمكر كما يمكرون.
أهواء عديدة سيطرت على مهج الناس وأرواحهم وعقولهم وأهوائهم، وإن أنت أقدمت اليوم صدمهم بحكم الإسلام، فلن ينصاعوا لك، ولن يقبلوا حكم الإسلام، ثم هم سينحون الاسلام جانبا ليتهموك أنت بالرجعية والتخلف.
ومن ثم لابد من طرق أخرى للتعامل مع مستجدات الحياة الحديثة.
قرأت مؤخرا أن سيدنا العلامة الدكتور محمد رجب البيومي قال فيما صدحت به أم كلثوم حينما غنت قصيدة حديث الروح لشاعر الإسلام محمد إقبال والتي كان منها:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان .. ولا دنيا لمن لم يحيِ دينا
ومن رضي الحياة بغير دين .. فقد جعل الفناء لها قرينا
قال رحمه الله ببصيرة العالم الفاقه: إن تأثير هذين البيتين بصوت أم كلثوم أقوى من مئة خطبة لم تتجاوز حناجر المشايخ.
البيومي ينصر إلى أثر الجماهيرية العريضة التي تملكها أم كلثوم، وحينما يركب الدين هذه الجماهيرية ليعلن عن نفسه ويصل صوته، فلا شك هو مكسب خطير، وخطورة الأمر أن صرخة الإسلام دب رنينها بين قوم عشقوا اللهو والطرب والموسيقى والانغام، وانصرفوا عن هدي الإسلام وحكمه ونظره لكثير من هذه الملهيات التي تعد صدا تن سبيل الله.
لكن قوما يفتقدون البصر بمصالح الإسلام، وتعتل رؤيتهم بقصور فاضح، وعدم اعتراف بالواقع، ليخالفون البيومي ويتهمونه بالجهل والبدعة والخروج عن هدي الإسلام، ولكن مشكلة الرجل مع هؤلاء، أنه ينظر ابتداء وبحكمة إلى مصلحة الإسلام، أمام واقع جسور لا يمكن اجتثاثه إلا بالتحايل معه ولو بالسحر..أعلم ان السحر حرام، ولكن انتصار الإسلام غاية كبرى قد تستحل من نظري بعض الممنوعات.
ولست هنا ممن يحللون الحرام، ولكن الظروف قد تلجئنا لبعض التنازلات من أجل مصلحة أكبر وأعطم، ولعله المقصود بفقه الموازنات الذي يجهله كثير ممن ركبوا صهوة التدين.
وهي ذات المعنى الذي كتبت عنه مزكيا حديث أم كلثوم حينما سئلت من مثلك الأعلى فقالت رسول الله، وهنا أثارت جملتها التي أحييتها جلبة على مسرح السخرية والتخوين، لم يستطع الجامدون أن يفقهوا ما معنى أن تنطق أم كلثوم بمثل هذه العبارة، وأثرها الغائر في وجدان شعبيتها الطاغية.. إنها لا شك أزمة فهم.
كثيرا ما يستوقفني هذا الحديث:
ذاكرُ اللَّه في الغافِلينَ مثلُ الَّذي يقاتلُ عنِ الفارِّينَ وذاكرُ اللَّهِ في الغافلينَ كالمصباحِ في البيتِ المظلِمِ وذاكرُ اللَّهِ في الغافِلينَ كمثلِ الشَّجرةِ الخضراءِ في وسطِ الشَّجرِ الَّذي قد تحاتَّ وذاكرُ اللَّهِ في الغافِلينَ يعرَّفُ مقعدَهُ في الجنَّةِ وذاكرُ اللَّهِ في الغافلينَ يغفرُ اللَّه لهُ بعددِ كلِّ فصيحٍ وعجميٍّ.