أنكر دائمًا تلك الطريقة التي تتبعها جماعات التبليغ والدعوة، لكنني لا شك ممن يعجبون بصدقهم وصفاء روحهم وسلامة صدورهم.
وإنكاري لهم مجرد إنكار على الإجراءات، لكنها في النهاية صورة من الدعوة التي نحن اليوم بأمس الحاجة إليها بكل صورة.
القوم من أبهى ما يميزهم أنهم ينأون بأنفسهم على الخلافات والصراعات ويعيشون لله، ويلزمون سنة نبيه، وقد تكون هذه الميزة عيبا في نظر آخرين، الذين يتصورون الدعوة إلى الله بصورة أشمل.
لكنهم في تقيمي أكثر ورعًا والتزامًا ومعرفة بالله وشعورًا بالروحانية، أكثر من الصوفية الذين يدعون أنهم أرباب الولاية وأهل الوصل الإلاهي.
الأديبة (مروة الجارحي) حينما علقت على ما كتبناه في مقالنا الهجومي على سلمان رشدي، كتبت بكل صفاء دون أن تعرف الخلفية الكافية عن جرائم المؤلف، فتحدثت عن الرفق واللين في الدعوة، ولو قدر أنه كان من الكفار فلماذا لا ندعوه ونخاطبه باللين، وأخذت تشرد بنا في عالم آخر، عالم مفعم بالتسامح والرفق واللين الذي يجب على كل مسلم حيال كل مخالف.
ثم لم تكتف بهذا بل عرجت على ما علمها والدها من أدب الدعوة في حوار الخصوم والتعامل معهم وتحمل أذاهم، وتقبل شرورهم.
كانت تتحدث عن والدها الذي بهرها بحسن خلقه، وكان وما زال، تنهل وإخوتها من معين فضائله وعلمه.. لم يكن هذا الأدب في نظر الكاتبة مجرد أب ككل الآباء ولكنه كان هرما شامخا تعتز به وتحبه، وبدا واضحا هذا الاختلاف فيها عن غيرها من فتيات جيلها ، حينما في كل مناسبة نلحظ قولها: علمني أبي.!
يمكن لكل الفتيات والكاتبات أن يتذكرن الأب ولا يعدوا القلم في كل مناسبة من ذكرى رحيله، إلا أن تكتب وتقول (رحم الله بابا) لكن صاحبتنا لها مذاق آخر في الحديث عن والدها الداعية.
وحق لها ذلك.. فالرجل من شيوخ جماعة التبليغ والدعوة الطيبين الأنقياء الذين يؤمنون بالخروج في سبيل الله، وحول هذا الخروج كان الموقف المدهش الذي الذي حكاه ذلك الوالد عن أحد أصدقائه من الشيوخ الذين خرجوا لأبواب الناس يدعونهم إلى الهداية.
وتعلمنا منها ومما رواه والدها كيف يكون الداعية الحق؟ بل علمنا معنى أن يكون الداعية داعية؟ وإذا كان أساتذة الأزهر يقفون في كلية أصول الدين يعلمون الطلبة دروس الدعوة، فإن قصة هذا الداعية التي نقلها والد الصديقة، وبما كان من أخلاقه وروحه ونفسه العالية، كانت أعظم تأثيرا من كل هذه الدروس والتحليلات.
لقد كان درسا واقعا تشبه فيه بنبينا الكريم في تحمل الأذى، أو قريبا منه.
فماذا حدث، قال الوالد:
طرق صديق لنا في إحدى رحلاتنا الدعوية، باب رجل يدعوه للحضور إلى المسجد والاستماع إلى دروس الهداية، فخرج الرجل، فلما رأى أصحاب اللحى، وسمع كلامهم، اعتلاه غضب هائل، وثورة صاخبة، وصار الشرر يقفز من عينية، فإذا به يسب الشيخ، وينهره بأقزع الألفاظ النابية السافلة، ولم يكتف هذا الرجل بما فعل، فإذا به يخرج من فمه الكريه، بصقة كبيرة الحجم والوزن، ويقذف بها في وجه الشيخ، حتى عدت على وجهه وصدره، بل إنها من وفرة مائها النتن، كادت أن تشمل وتتوزع قطراتها على كل جسده.
وهنا...
تأمل نفسك لو صنع أحدهم معك مثل هذا الصنيع، كيف يكون رد فعلك.
لاشك أن لو كنت من العصبيين، لنسيت أمر الدعوة والهداية، وقفزت على الرجل لبرحه ضربا.
لكن أتعلمون ماذا فعل الشيخ الداعية؟
لقد وضع يده على هذا البصاق ومسح به كل جسده ثم رفع يده إلى فمه وأخذ يقبلها حتى تمس شفتيه أثر البصاق المحموم.
ثم كانت قولته للرجل: جزاك الله خيرا.
ورحل الشيخ وترك الرجل خلفه ينعم في بيته، ولم يبتعد الشيخ عن باب الرجل إلا بضعة أمتار وبالتحديد مسافة أربعة أمتار، فإذا به يفاجأ بالرجل يجري وراءه ويقف أمامه ويبكي، وركع أمامه على ركبتيه، نادما على فعلته، ربت الشيخ على كتفيه ورأسه وقبل اعتذاره، ولكن هذه البصقة كان لها فعل آخر إذ حولت مسار الرجل ليصير بعدها من أعبد الناس ، بل صار في مسار الدعوة إلى الله رفيقا للشيخ الداعية.
هل تشعر هنا أيها القارئ أنني أخطأت حينما نسبت هذا التحول وهذه الهداية لبصقة الرجل؟
تخيل .. أنا نفسي شعرت بذلك الآن، فالسبب الحقيقي في الهداية، كانت سماحة الشيخ الداعية، وليست بصقة الرجل على من طرق بابه.