ما أقبح صورة العالم حينما يكون منافقًا.
وما أخس الأديب الذي يناط به أن يكون لواء الحرية في وطنه حينما يكون متملقًا.
شاء القدر منذ فترة يسيرة أن نشاهد على اليوتيوب حلقة فريدة من الستينات لم نشهدها من قبل ولم نكن نعلم بها..
يمكن أن تسمي هذه الحلقة بأنها سيمفونية من النفاق والتملق، وللأسف الأسيف، حينما نرى فارس هذا المشهد النتن، عالما من العلماء أو أديبا من الأدباء الكبار، له في نفوسنا مكانة وفي وعينا قيمة، فإننا نصاب بالخزي والحسرة.
بنت الشاطئ وما أدراك ما بنت الشاطئ تلك الأديبة اللامعة والعالمة المقتدرة، كانت تقف في مجلس الأمة تكيل المدح للزعيم المفدى وقد جعلت منه هدية السماء للأرض، وأوشكت أن تقول لولا بقية من دين: إنه يوحى إليه!
ومن المضحكات أنهم يصورون هذا المشهد بأنه من مشاهد الحرية التي تمتع بها عصر الزعيم ناصر، وكتبت قناة الناصريين معلقة على المشهد بقولهم : (سعة صدر الزعيم جمال عبد الناصر في مواجهة نقد بنت الشاطئ دكتورة عائشة عبد الرحمن)
فبنت الشاطئ تنتقده، وهو يستمع لها في صبر وتفهم.. ومن يتخيل مثل هذا الوهم، يكذب الحقيقة ولم يلتفت جيدًا للكلام، فهذه امرأة سبحت بحمد الزعيم، ومدحته هذا المدح الخارق، ومنحته من صور التزلف والإطراء مغلفة بأهازيج البيان، ما يجعل المستمع مشدوها لهذا التفرد في التهليل للحكام.
من حق العامة أن نعذرهم وهم يؤلهون الزعماء لجهلهم وقلة وعيهم، لكن ما بالنا نعذر أديبًا يتمرغ في دثار النفاق، وهو أكثر الناس فهما ووعيا وإدراكًا أن هذه المدائح التي تخرج بالممدوح من نطاق البشر، من أخطر الأضاليل والنتوءات التي تفسد سير الحكام.
تقول بنت الشاطئ في معرض خطبتها أمام السيد الرئيس: " وأنتهز هذه الفرصة لأقول: إن الرئيس جمال لم يولد سنة 52، كلا ولا هو من مواليد القرن العشرين – سموا هذا الكلام عاطفيًا أو خياليًا، ولكني مؤمنة أن بلدي وأن هذه الأرض الطيبة ظلت تحاول أن تلد جمال مرة بعد مرة، هذه الأمة التي يصفونها بعدم الوعي ولدت جمال مرة في عرابي ثم لم توفق، ثم أعادت الكرة في مصطفى كامل ثم لم توفق، وعادت فولدت سعد زغلول وعادت فولدت كل الفدائيين الذين حاربوا في القنال، وكل الفدائيين الذين انتقموا للشعب من أعدائه..."
ما هذا الكلام الذي قيل لا يمكن أن يفسر إلا أنه تزلف ممقوت، ومدح زائف يعطي ظهره للحقائق.
والحق أنه لا عاطفيا ولا خياليا ولكنه نفاقيا تملقيا.
ولعلها قالت كلاما جيدا يصب في صالح الاصلاح السياسي، وكلن هذا التقديم الوصولي أفسد على المرء استحسانه لما قالت.!
وهنا كلمة لابد منها
يتصور بعض الطيبين أننا نهدم الرموز ونفتش عن الهنات التي تفسد رؤية الناس للعظماء والمشاهير، لكننا والله نحترم الحرية، ونعشق نفوس الأحرار، بقدر ما نبغض النفاق والمنافقين.. وكل شخص في نظرنا مهما عظم حاله، لا يتعالى على النقد، بل هو في مرماه إذا صدر منه الخطأ.
والبعض الآخر يصرون أن لا يتركوا أقلامنا تعبر عما ترى وتؤمن، بل يريدون ذبحها بسكينهم الباردة، لتهرب من النقد، وتعتبره حراما عليها.. هم يريدون للعظماء أن تكون أصناما مقدسة، لا يجوز الاقتراب منها أو التعرض لها، بل هم يتصورون برؤيتهم أن مجرد نقد نوجهه لرمز من الرموز، هو هدم له، وهذا غير صحيح، وإذا كان من العامة أو بعض القراء من يتصور ذلك.. فنحن نقول له هنا: لا تمنعك مساوئ رجل من ذكر محاسنه، والعكس، فأنا أراك عظيمًا وأقدر فكرك وأدبك وعلمك، لكنك لا تعجبني في هذا الموقف أو هذه الكلمة، وهذا هو منهج الأسوياء الذي يجب عليهم النظر به والتقويم بمقوماته.
عرفت أن بعض الناس يفصل بين الفكر والأدب من جانب، وبين الموقف السياسي من جانب آخر، وهذا منطق عجيب، كيف يصدر من متعلم؟! فرجل شاعر يمتدح الاحتلال أو يشيد بالمسؤولين الخونة والحكام الظلمة والمأجورين والعملاء بأبرع جمل البيان، إنه شاعر وأديب وبليغ، لكنه في المقام الأول خائن لوطنه ودينه وأمته.
خائن للحرية والإنسانية.
وأنا أعجب للمتقولين، هل رأوني يومًا أنكر بلاغة الشاعر أو أدب الأديب حتى تتعالى أصواتهم علي؟
إنني فقط أدرجه في باب المتملقين، أما الشعر فهو ربه، وفي الأدب معلم يشار إليه بالبنان.. ولا تعارض في هذا أبدًا بين تمييزه والحط به.