ما زلت إلى اليوم أقف متأملا مندهشًا أمام هذا النموذج الذي قدمه الإسلام للحاكم العادل، و(عمر) رضي الله عنه لم يكن مجرد حاكم أو أمير تسيد وتسلطن، بل كان رجلا خطيرًا أحدث زلزالا في الأرض، وهدم أعظم ممالك الوجود، وأطاح بامبراطورية الفرس، وهدد عرش روما، وأزال وجودها في الشرق.
وهو مع هذا المجد مفتوح بابه، سهل لقاءه، يأتيه الجميع في شكاتهم ومصالحهم دون حاجب أو مانع، بل ربما لو طلبه أحدهم لسار إليه بقدميه خادمًا ملبيًا.
ومن هنا كانت عظمة (عمر) وكان انتصاره ومجده.
رجل قبصي يظلمه الأمير وابنه في مصر، فيقطع مسافة السفر إلى الجزيرة يشكوهما إلى عمر، فتقوم الدنيا ولا تقعد ويرسل في طلب الأمير ليقتص منه ويأخذ حق القبطي.
ولعل الناس يتحاكون بعظمة الموقف في عدالة القصاص، ولكننا يجب أن يكون لنا نظر آخر وميزة أعمق، وهي سهولة الحصول على الحاكم، ويسر الوقوف أمامه، بلا صعوبة أو أو تعنت حاجب يمنعنا عنه حتى نُبلغه الشكاة.
نعم هذه هي العظمة الكبرى التي يجب أن نقف عليها في جلال هذا الموقف، وأمام هذا الزمان الذي يصعب عليك فيه أن تصل إلى مسؤول، أو تقف أمام ذو منصب أو جاه.
بل هل أقول لك: إن الأمة والشعب الذي يستطيع المواطن فيها أن يصل إلى المسؤول، فإنها علامة على عدالة هذه الأمة، وسيادة الحق فيها، وانتصار القانون في ربوعها.
والأمة التي يتعسر فيها أن ترى صاحب السلطة، فهي علامة على ضياع الحق وانعدام العدل.
تعرفت مؤخرًا إلى معالي المستشار (بهاء الدين المري) بهاء المري ومنذ أيام جمعني به لقاء في أحد الأندية الثقافية، وهو القاضي الذي لمسنا فيه تواضعًا جمًا، وأدبًا فريدًا، وإذا كان الرجل قد لفت انتباه الجماهير مؤخرًا بما كان من كلامه وأحكامه، فإن خلف هذه الأحكام والكلمات، سيرة رجل عادل، ومسؤول منصف، يجب الوقوف عليها وإدراك معالمها.
حكا لي معاليه: أنه وفي خلال عمله بالنيابة كان يصدر أوامره أن يظل بابه مفتوحا للجميع، وأن لا يُمنع أحد من لقاءه مهما كان طلبه وشكواه، أو لونه وشكله، وإذا حاول أحد الحجاب أن يفرض وصايته وسلطته في المنع والدخول، عنفه ولامه وأغلظ له القول.
كانت أوامره المباشرة أن يدخل عليه كل من طلبه ليسمع منه ويقضي أمره.
الرجل كان يحكي هذا ويعتز بما صنع، وعندي أن مسؤولا يفرح وينتشي ويزهو بما كان من عدالته بين الناس، وحسن معاملته للجمهور، وتواضعه أمام الجميع، وسهولة الوصول إليه بلا حاجب أو حارس، لهو رجل يقدر قيمة العدل، ويسمو بجبر الخواطر، ويتيه في دنيا التواضع إلى حد نادر وجوده في هذا الزمان.
علمت أن الرجل ألف كتابا تحت عنوان (القضاء في الإسلام) ومن ثم ليس عجيبًا على من كتب هذه السطور أن يستلهم هذه الروح المتواضعة العادلة، ويبغض سلطة الحجاب الذين يقفون في وجه المضامين المغلوبين.
(المري) رجل مليء بالذكريات المبهرة، التي تجسد سيرة رجل مترفع متواضع، وفي جعبته كثير من مشاهد الفخار على المستوى الشخصي والعملي، ولو أنه وقف مع نفسه ودونها، فسوف نرى صورة زاهية للمسؤول المستقيم، في زمن عز فيه رؤية هذه الصورة، التي يصاحبها كثير من الدهشة والعجب.
أنا لا أحب الكتابة عن رجال السلطة والمشاهير، و أصحاب المناصب والنفوذ، حتى لا يظن ظان أننا نتزلف إليهم أو نسعى للقرب منهم بغية الإيواء إلى ركن عظيم.
لكننا نؤمن أن الأمة التي يسود فيها العدل، وتعلو فيها كلمة القانون، هي أمة سعيدة واعدة.
ونؤمن أن مسؤولا بهذه السمات، جدير أن نتحاكى عنه، ونمدح فعله، ونزكي خلقه، ونضرب به المثل في النزاهة والرقي.
بل نؤمن أن اليوم الذي يكف الناس فيه عن طلب الوساطة لإنجاز مهماتهم وتحقيق مطالبهم، هو يوم مشرق يعبر عن عدالة الدولة وسمو الأمة، ولن يكون هذا إلا إذا كان باب المسؤول مفتوحًا أمام الجميع، كما كان عمر قديمًا، وكما كان المري حديثًا.