التواضع شيء جميل يدل على سماحة النفس، ورقي الخلق، وسمو الطبع.
أما التكبر فشيء رذيل يدل على سوء الخلق وفساد الذات وانحدار الغرض.
وبعيدا عن هذا كله نرى الشعور بالنقص أحيانا يكون أكبر دوافع التكبر في نفس الإنسان.
وأقبح منه هذا التكبر المفاجيء لمن كان بالأمس جليسك وأنيسك وونيسك.
فالمنصب الذي تقلده، والمال الذي ناله، جلب معه مسحة التكبر والعجب، الذي جعله يرى نفسه شيئا آخر غير ما كان عليه في الماضي، فلا يجوز لمن كانوا قريبين منه أن يعاملوه بما كانوا يعاملونه به سلفا.
فإذا ناداه أحدهم باسمه غضب وتذمر.!
وإذا داعبه او ضاحكة ضجر وسخط.
فما أروع هؤلاء الأصدقاء الذين لا يسمحون لتقلبات الزمن أن تفسد عليهم جمال أخلاقهم وعقدها العظيم الذي تجلى في خلق التواضع.
ويعد هذا التغيير المفاجئ في تعامل أحدهم وانتفاخه بنفسه.. انقلابا يحز في نفس الخلان، ويعرض أمام رؤاهم كم هذا الزمن غادرا لا يُبقي على ود ولا يخلص لوفاء.
رأيت بنفسي ومرت بي بعض هذه التجارب التي وقفت معها حائرا دهشا متسائلا: كيف للرتب والمال والحظوظ أن تهدم الود وتتنكر للعشرة بهذا الجفاء.
كان لي صديق في العمل نقضي الوقت معا، نأكل ونشرب ونتكلم ونمزح ونتسامر، وأناديه في غدوه ورواحه بعلوة.. كنا على هذا الحال سنينا طويلة، وفجأة ترقى إلى درجة مدير، وظل تعاملي معه دوما على أسلوبي وطريقتي القديمة.. علوة راح علوة جاء، حتى فوجئت به يوما يطلب مني ألا أناديه بهذا الاسم رعاية لمنصبه الجديد.
قد يعذره البعض، ويجد له المبرر، ولا يجدون في تصرفه وطلبه أبدا أي خطأ، لكن مهما برر المبررون، فلن يستطيعوا أن يمحو من تصوري صغار النفس وجحود الوفاء الذي تزيا به علوة.
قرأت قديما عن رجل أعمال كبير أو صاحب منصب مرموق، نزل من القطار مع أسرته، ولقي صديقا قديما من أيام الدراسة يعمل عاملا في ذات المحطة، ناداه باسمه مجردا وحياه واختضنه، والرجل الثري يسعد به ويقابل حفاوته بحفاوة أكثر.. ولما سأله عن عمله ومكانته، تبين له الفارق، فسارع الصديق القديم، ليضع التكليف، وشعر بحرج بالغ أن ناداه باسمه مجردا، لكن الرجل الكبير، رفض من صديقه هذا التكليف، وأخبره أنه يحب منه التبسط معه، ولا يمكن أن يكون بين الأصدقاء ما بين غيرهم من الناس.
هذا خلق عالي، وكمال في النفس، وتواضع عظيم، حرم منه كثير من الناس في واقعنا العملي.
ذات يوم وكنت في جمع من الاصدقاء، أقبل علينا رجل يعرف أحد الجالسين للسلام عليه وتحيته، فلما نظرت إليه، وجدته صديقا لي في مرحلة الاعدادية والثانوية، وبيننا عشرة طويلة، لا داعي لذكر تفاصيلها، لأن العلاقة بين أصدقاء الدراسة لا تستدعي شرح طبيعتها.
وما أن لمحته، حتى هللت في وجهه وسلمت عليه، وقلت من فرط سعادتي به من وحي ذكرياتي القديمة: (اذيك ياواد يا أحمد)، رد علي بدهشة فلم يرني منذ زمن طويل، ولكنه سرعان ما ولى وانصرف، ولامني الجالسون على قولي، لأن صاحبا قد علمت منهم أنه صار مستشارا قضائيا.. قلت لهم: رويدكم ياقوم فأنا لم أكن أعلم ما وصل إليه صاحبي، ثم هو صديقي وما قلته له من باب الدعابة التي عهدتها معه منذ الصغر.
لم يقبلوا العذر، ومما أسفت له بعد ذلك حينما علمت أنه اشتكى الموقف لمن عرفه من جلسائنا، واستاء من مناداتي به بهذه الصيغة.
أعيد كذلك قولي أن له الحق، ويمكن أن يجد من القراء من يراه على صواب، ولكني أكرر أن صدمتي بمن جرح المودة وتنكر للعشرة لا حدود لها.
إنه العشم والتودد وبغض التكلف، لكن أناسا أخر، يرون هذا التكلف أسلوب حياة لا يمكن أن يعيشوا في غيبته.
ألفوا الكبر، وتطبعوا بالعلو، وتشبثوا بالمقام والترفع.
انظر لهذه المرأة العظيمة التي كان لها من اسمها نصيبا، إنها سلمى، وحقا كانت سلمى، وهو اسم من أسماء الجبال، وقد اضطلعت بما يتحمله الجبال، ففي ظروف شاقة وعصيبة عكفت على تربية ولدها اليتيم، إلى أن صار من أعلام العلم، وكبار المحققين، يذكر لنا العالم الجليل فضيلة الدكتور (النبوي شعلان) أن أمه في صغرة كانت تحثه على المدارسة والتفوق، وكان مما تقوله له دوما: لو نلت شهادة كبير لاحترمك الناس وأجلوك، ولو نلت شهادة صغيرة لقل احترام الناس لك.
يقول شيخنا: كانت هذه المقولة تمثل أمامي دائما وتملك على طيف خيالي في كثير من المواقف التي مرت في حياتي، فيوما ما وقد كنت عضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وبعد أن ركنت سيارتي، وهممت بالدخول إلى المجلس لحضور إحدى لقاءاته، سمعت صوت أحدهم يناديني باسمي ويقول: اذيك يا نبوي.. فالتفت إليه فإذا هو عبد الرحمن صديقي من أيام الدراسة، أقبلت عليه وعانقته وعانقني ووضع يده على كتفي، وأخذ يسألني ما الذي جاء بك هنا؟ هل لديم طلبا أو مصلحة فأقضيها لك، فأنا رئيس قسم في المجلس.
وهنا وقبل أن أجيبه بشئ، خرج صوت أحدهم من قاعات المجلس ينادي بأعلى صوته: هيا يا دكتور نبوي إلى الاجتماع حتى لا تتأخر.
وما أنا قال الرجل قولته، حتى وجدت عبد الرحمن قد سحب يده عني ويقول لي متحرجا: أنا آسف يا دكتور نبوي..فقلت له: اسمع ياعبد الرحمن لا تقل هذا أنا النبوي وأنت عبد الرحمن صديقي..لكنه أبى ذلك الحال، وأخذ يكرر أسفه وبشدة.
يقول الدكتور النبوي.. دخلت الاجتماع، وأنا في واد والدنيا في واد آخر، وكل ما يسيطر علي مقولة أمي ونصيحتها القديمة: نل شهادة كبيرة حتى يحترمك الناس.
وتذكرت صديقي عبد الرحمن الذي كنا متذمرين من تعيينه فور تخرجنا بالواسطة..لقد سبقنا إلى التعيين، لكن الشهادة الكبيرة، تخطت بي الحدود.
التواضع خلق وإيمان.