إنك تدعي الشجاعة، وتدعي صفاء النفس وجلد الوجدان.. تزعم أنك ترحب بكل نقد يوجه إليك، وتحاول زيفا أن تبتسم أمام الناس لتريهم من نفسك أنك آية في قبول النقد واحترام المخالف، لكنني مؤمن أنك تشتعل من الداخل، وتتمنى لو تتاح لك الظروف أن تنصب مقصلة تقطع بها أدمغة المنتقدين.
النفس جبلت على حب من يمدحها ويطريها، وجبلت كذلك بغض من ينقدها ويحط منها.
أما أنت فقد يدفعك الغضب يوما أن ترد على من ينتقدك، لا بنقد مماثل، وإنما بتحطيم هائل، وعاصفة جارفة، لأنه تجرأ على نقدك والحط منك.
وتتوسع الخصومة، وتتمادى العداوة، ليدخل معها المساس بالنفوس والتعريض بالذات، لتخرج المعركة من حيز الفكر والأدب، إلى عرين العداوة الشخصية.
ثم يخلف غضبك ثورة هائلة، وأغلاط فاضحة، وتنطلق غباءات مدادك من سن قلمك، بالطعون الهائجة، التي تجرح بها خصومك، فتعكر النفوس، وتفسد الصدور، وتمحو منها أي بصيص للصفاء، الذي حل محله الكدر والكره، وتصعب معه أي عودة بعد أن تقطعت كل أواصرها.. وتأتي ساعة الندم بعد أن تهدأ النفس وتخمد ثورة غضبها، ولكن لا سبيل لرأب الصدع.
كان هذا هو حال المازني حينما انتقده صديقه عبد الرحمن شكري واتهمه بالسرقة في الشعر وأنه طبع ديوانه وبه أشعار مترجمة، نسي أن ينسبها لأصحابها، ووجد الشامتون نقد شكري فرصة للنيل من المازني، الذي أزعجه هذا النقد كثيرا فانبرى يهاجم صديقه بأعنف وأقسى هجوم.!
فرماه بالجهل فلا هو كاتب ولا هو شاعر، ثم هو يقترب من الجنون، لقد أثر هذا الهجوم على نفس شكري، وإذا كان موقفه قد اندفع من قِبل المسؤولية والأمانة الأدبية، إلا أن الجراح والألم الذي خلفة نقد المازني، قد دفعه ليهجر الكتابة والأدب عمرا طويلا وهو في أوج عطائه وزهو مواهبه.
١٧ عاما هجر فيها دنيا الكتابة والأدب، متأثرا بنقد صديقه المازني الذي سرعان ما تألم لما صنع، فأخذ يستجدي شكري ويستسمحه، ويثني عليه، ولكن لا مجيب، فكما يقولون:
جراحات السنان لها التئام**ولا يلتام ما جرح اللسان
ولعل القلم هنا كان بريد اللسان
يقول المازني:" ولقد تنمرت له وغدرت به، ولكني والله ما كرهته ولا انطويت له في أحلك ساعات النقمة، إلا على الود والإكبار"
إن غدرة الصديق لا تشفى مرارتها، وتكون في وخز القلب أعمق أثرا وأفدح شعورا.
#مقالات_حاتم_سلامة