أطالب الناس أن يتعاملوا بأدب في اختلافهم مع بعضهم البعض، وأصارحهم بأنهم سقطوا في كل اختبار مع كل موقف يتباينون فيه، وأن همّ أحدهم أن يسخر من صاحبه ويحقق عليه الغلبة والنصر، كان ذلك باديا جدا في أخر هذه الأحداث التي مرت بأمتنا.. هل ايران جادة ام هازلة…
فريق أيد إيران واتهم بالحمق من قزم ضرباتها، وفريق آخر هزأ من صواعقها ووصفها بالفشينك والتمثيل والهزل، ولم يجد الفريقين غير الحمير ليكون التشبيه والوصف الذي يخلعه كل منهما على الآخر.
وبينما انا ازكي هذا الخلق وأعلم الناس اننا امة واحدة ومصير واحد لا يليق بنا أن نكون على هذا النفور والخلاف المقزز الموتور، يخرج علي عقل مأفون فيتهمني أنني اجعل الرافضة كأهل السنة وأنني وضعتهم معنا ضمن مكون الأمة الواحدة، وترجل الفارس الشريف النبيل واعتذر لي أنه كان يحترمني وأنه مضطر أن يغلي الصداقة بيننا لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن دينه وعقيدته وقام بالحظر.
أما أنا فأقول لك: هل تتخيل حينما أجهد نفسي وأتعب ذهني وأكلف وقتي في تحقيق الأفكار التي أشارك بها أصدقائي، ثم يخرج علي عقل مثل هذا لا يدرك شيئا ولا يعي من المكتوب حرفا، ويتخيل نفسه صلاح الدين الايوبي، أو العز بن عبد السلام صاحب المبادئ الذي يركل الدنيا بقدميه من أجل مبادئه.. يا أخي انت لم تفهم أي شيء، ولا تستطيع فهم أي شيء، فالحمد لله الذي أراحنا من وجودك.
ولنترك صاحبنا هذا فهو أمر عادي وظاهرة مضحكة تتكرر مع الجميع، لكنها ذكرتني بمناسبات تعييني كثيرا حينما يقرأ كلامي من لا يفهمون، فيسوقهم عدم الفهم إلى الولوغ في مناطق وعرة لم أقصدها او أريدها، فيحملونني فوق طاقتي، وربما يقذفني أحدهم بجناية او جريمة وانا منها برئ لا ذنب لي إلا أنني كتبت كلاما شاهده أبله، أو قرأه -مخبول- أو مر به مشلول الوعي عيي الادراك.
قرأت مرة أن رجلا تزوج بامرأة، وبعد شهور تم الطلاق، فاقترب منه صديقه وسأله: لماذا طلقتها؟ فقال بكل برود: لأنها كاذبة!
فصمت صديقه برهة ثم قال له: وكيف كذبت عليك؟
قال: بعد الزواج بأيام وجدتها تقول لي: البيت عاوز فلوس.. فغفرت لها ذلك وسامحتها، فإذا بها بعد أيام تردد نفس المقولة وتلح فيها، فلم أطق هذا الكذب منها، وتفاهمت معها واتفقنا على الطلاق لأني لا أحب الكذب ولا الكاذبات..
فاندهش صديقه وقال له: جميل ما تقول ولكن زوجتك لم تُخطئ، فأين الكذب في قولها؟ فرد عليه الزوج البائس وقال له:
وهل يتكلم البيت ليطلب فلوس؟!!!
تخيل عزيزي القارئ أن هذه النظرة نفس ما يتعامل بها كثير من القراء مع الفكر والمقالات والثقافة، يعاملونها معاملة حرفية نصوصية، ويأخذونها من ظاهرها بصورة غير طبيعية، فيرفضون الاستعارات أو التشبيهات أو التأويلات ولون من ألوان المحاز، أو أي صورة من صور البلاغة إن تحتم الأمر، حتى لو أنك سقت كلاما على سبيل التهكم؛ أخذوه وكأنك تتكلم بجدية، وإن سألت سؤالا تستفسر فيه عن شيء، جعلوه تصريحا واتهاما وإقرارا.
وهذا الصنف حقيقة أجد معه معاناة قوية وألقى منهم عنتا شديدا، ولا أجد نفسي حرا معه، ويشعر عقلي أمامه بالعجز، ولا أعرف كيف أشرح وجهة نظري أو أدافع عن نفسي.؟
إنني لا أتهم أحدا بالجهل وضيق الأفق، ولكني أحزن كثيرا حينما لا يصل كلامي إلى الأفهام، أو أجد مثل هذا الجمود أمام كلامي، الذي يُبنى أكثره على التمويهات والاستعارات والتشبيهات..
أذكر مرة أنني دخلت في معترك فكري، ونقاش حاد مع بعض الناصريين في شباب قريتي، فاحتد بي الحديث حتى قلت لهم: (ألا تتذكرون ماذا فعل عبد الناصر الذي تعبدونه اليوم) وهنا توقف الحديث، بل توقفت الدنيا، ووجدت سيلا جرارا مدرارًا من التهم التي أصبت أمامها بالشلل الفكري والعقلي والحركي.!
وإذا بهم يتشنجون ويتصايحون ويقولون: انتا بتكفرنا؟
تتهمنا إننا بنعبده؟
انتا شفتنا بنسجد له من دون الله؟
ولا بنصلي له؟
ينهار اسوح بنعبده مروة واحدة؟
أستغفر الله العظيم؟
حرام عليك يا أخي بتكفر الناس؟!!
وبعد هذه السياط تعثرت ووقفت، ولم أستطع النطق وانسحبت وتراجعت، وأقررت أنني أنا المخطئ وليسوا هم..
لقد كان لابد لي ابتداءً أن احترف الحديث، وأؤمن أن لكل قوم مقالا، وحديثا خاصًا بهم، ولا يجب أن أعاملهم بما أعامل به المثقفين أو أهل الوعي والمعرفة.
ولا شك أنني أقصد بهذه العبادة، بأنها عبادة الهوى والاتباع، وليست عبادة الصلاة من السجود والركوع والقيام.. وتذكرت هنا هذا الحديث النبوي الشريف:
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب قال فسمعته يقول: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} قال: قلت يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال: أجل ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم.
ان بعض العقول حتى تفهمهم جملة أو تعبيرا، يحتاج منك إلى قوة سحرية تتخطى
بها أزمانا طويلة وسنين مديدة قضيتها في التعلم والقراءة والفهم.!
إن بعض العقول قاصرة عن الفهم، وتعاني من أزمة وعي، ولا تستطيع إدراك كل ما يقال من حولها أو يعرض عليها، ومن ثم لابد للكاتب أن يُراعي قدر الإمكان عقول من يحدثهم، ولكنه إذا كان يملك ذلك ويستطيع النجاة من الحديث، فكيف يستطيع النجاة من القلم؟ وكيف له أن يتقى ظنونهم وحَرفيتهم أمام المداد المكتوب؟!
لابد أن التهمة ثابتة عليه ثبوت الجبال.!
أتذكر هنا موقفا طريفا حينما دخل الأستاذ احمد لطفي السيد في الانتخابات، وكان له خصم ماكر، نزل بين الناس وقال لهم كيف تنتخبونه وهو رجل يؤمن بالديمقراطية ويقول بها؟ هل تعلمون ما هي هذه الديمقراطية؟ إنها تدعو أن تتزوج المرأة أكثر من رجل، فإذا جاء فاسألوه..
فلما جاء الأستاذ لطفي السيد التف حوله الناس وقالوا له: هل تؤمن بالديمقراطية: فقال لهم نعم أؤمن بها إيمانا شديدا.! فزاموا بألسنتهم وأعينهم وبيتوا له أمرا في نفوسهم، ثم كانت النتيجة سقوطه في الانتخابات.
كذلك مما يزيد استيائي أن أكتب مقالا وأريد شيئا بعينه وجسمه ووصفه، وأؤكد عليه في السطور مرارا وتكرارًا، ثم يصر بعض القراء على نقيضه وتكذيبه.
وأذكر مرة أن شرطيًا، اتهمني بأنني أهاجم قتلى الشرطة وأرفض وصفهم بالشهداء، وكانت هذه تهمة غريبة لم أجنح إليها يوما أو تأتي في خاطري، والذي دفعه لذلك أنه قرأ لي يوما مقالا عن أنواع الشهداء وأصنافهم، بينت أن الشهادة ليست لفظا نمنحه لكل من شئنا ممن نحب من الناس، لأنها مكانة رفيعة القدر جليلة الأجر، وهي لله تعالى وحده، وصادف كتابه هذا الكلام وقوع حادثة اغتيال لبعض العساكر والمجندين.
فما كان منه إلا أن ربط الاحداث ببعضها ربطة عميقة السوء، سحيقة التصور، وادعى بين الناس أنني ألمح بقتلى الشرطة، وأرفض أن يكونوا شهداء.. وصاحب ذلك بكثير من السباب والتطاول على شخصي، بل تعدى هذا أن يطعن في قلمي وكتاباتي وموهبتي التي أشاد بها كبار الأدباء في مصر، وأجبرت قامات الثقافة فيها أن يقرؤوا لي، وقال قولته: ماذا يكتب؟ إنه يكتب هراء لا قيمة له ويأتي من هنا بكلام ومن هنا بحديث، ورغم هذا التجريح لم ألتفت إليه أو أعيره اهتماما، وكنت من قبل أظنه يعي قصدي ويفطن مرادي، وأخذت أِشرح له وأبين أن ذلك لم يكن قصدي، وأنه أخطأ فهمي، لكنني اكتشفت منه إصرارا عجبا على تخطئتي حينما رد علي وقال: لا.. أنت تريد ذلك وتقصده، ولما وجدت نفسك قد انكشفت، أخذت تعدل كلامك في الفقرة الثانية.!
ما هذا الذي يقال؟
ما هذا الذي يحدث؟
وما الذي يجبرني على الانكشاف والتستر والتعديل، والقلم بيدي أفعل به ما أشاء، وأريد ما أشاء..
والحق أن هذا الموقف كان له دروس مهمة استلهمتها في طرحي للأفكار بين العامة الذين قد لا يحسنون فهمها أو يدركون أبعادها.. وهو أن الصبر إذا لم يكن قرين قلمي فمن الأصلح أن أكسر هذا القلم ولا أكتب به مرة أخرى.