أعترف أننا نصادم كثيرا من الناس وخاصة بعض المثقفين ونحن نتحدث عن الدكتور طه حسين ومخلفاته الفكرية، وصداماته الدينية، ومخالفاته الإسلامية.
بل يتحول هذا الخلاف والجدال، أحيانا إلى خصومة عنيفة وعداء ظاهر، قد يرميك صاحبها يوما بالجهل والرجعية والتشدد أحيانا.
والحق أن مرجع هذا الخلاف يعود إلى سبب جوهري، ونقطة لم يلتفت إليها كثير من الناظرين وهي، أن أغلب المدافعين عن طه حسين، من عشاق الثقافة الأدبية، قرؤوا له وعاينوا أدبه وعشقوا أبحاثه، وبانت لهم روعته الأدبية، وضلاعته اللغوية، فصار في أعينهم عظيما لأنه ساد وبرع في ميدانهم الذي عشقوه من أجله.
ومن ثم إذا رؤوا أحدا ينتقده، فإنهم لا يستوعبون ولا يفهمون، بل لا يخطر في بالهم أن هذا العملاق يمكن أن يخالف الفكر الديني في شئ، أو يعرض لثوابت دينه بالافتراء يوما، وعليه تقوم أمامك معارضة شديدة، تتعجب منها وتضرب كفا على كف، حينما يكون الدليل واضحا والإدانه بينة زاهية، ومن أقوال صاحبها، ثم يعترضون عليك.
لقد قال لي أحدهم يوما: ارفع يدك عن طه حسين، فلما تبينت حاله، علمت أنه خريج دار العلوم، وأن العصبية وحدها للغة والأدب هي من جعلته يقول هذا.
وقال غيره لي يوما: مهما فعلت وفعل أمثالك، فلن تستطيعوا أن تهدموا طه حسين، وسيظل قيمة وقامة عبر الزمان والأيام.. والحق أنني لم أنتو هدم الرجل ولم يكن في نيتي هذا، فقط أردت أن أنتصر للحق وحده، وأظهر الخطأ حتى لا تعمده العقول وتؤمن به.
وهنا يتكشف لنا خيبة من يدافعون عن طه حسين، والتي تتمثل في ضعفهم الثقافي الفكري وخاصة الديني، مع تضلعهم وتفوقهم الأدبي، لقد جهلوا أن للرجل وجهتبن، إحداهما أدبية وأخرى فكرية، وكل منهما له رجاله ورونقه ووجهته، فإذا تحدثت عن طه حسين المفكر، فلا تقحم الأدب في الموضوع، وإذا تحدثت عن طه الأديب، فلا تقحم الفكر في الموضوع، يجب الفصل التام بين الأمرين، حتى نعي ونفهم ما يدار.
كثير من محبي أدب طه حسين، مولعون بالأدب وحده، ومقصرون في الثقافة الإسلامية، ومن هنا يحدث اللبس والتصادم.
ولو أنهم درسوا وقرؤوا وتعمقوا، لفهموا وأدركوا هذا الفارق.
نختلف معه فكريا لكننا نقدر عبقريته الأدبية، ونتوافق معه أدبيا، لكننا لا نناصره في كثير من أفكاره.
إن بعض الناس ممن بهرهم أدبه، يأخذون كتاباته الدينية وكأنها وحي بعد كتاب الله، وأحدهم لا يستطيع أن يستوعب، أن يقوم هذا الأديب بغرض في كتاباته، وهو في نظره ذلك الأديب الكبير، الذي كتب في السيرة النبوية، وكتب عن الصحابة والرسول وقيام الإسلام، فما أبرعه وما أثمر أدبه وأجمله.
أما ما فيه من مخالفات وأكاذيب وترهات، فهي لا تعنيه لأنه لا يطلب فكرا بقدر ما يطلب أدبا، وللأسف حينما يحاول أن يجنح للفكر يوما، نرى هذه الأكاذيب والشبهات قد تلبست به من حيث لا يدري وكأنها العلم الأصيل والحق الساطع المضئ.
فتراه يرددها عن ثبات ويقين.
وهي ذات المشكلة التي كنت أجدها من والدي رحمه الله ومن فرط إعجابه بطه حسين والعقاد، لم يكن يستطيع أن يدرك، أن مثل طه حسين يمكن أن يكتب ما يشين أو يخالف الدين، فهو في نظره أديب الأدباء، ويوما ما كنت أقرأ له من كتاب فقه السيرة للبوطي رحمه الله، وفي مقدمة الكتاب، كان البوطي ينتقد اللفتة الانسانية التي سار عليها بعض الكتاب في حديثهم عن الرسول كالعقاد في كتابه عبقرية محمد، وإن كان لم يشر إليه ويقول البوطي: إن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي وهذه النبوة جعلته يرتقي ويتميز ويختلف عن البشر، وحينما نقومه، نقومه بالنبوة لا بالإنسانية.
فما كان من والدي إلا أن أشاح بيده وقال: ايه جاب الكلام الفارغ ده للعقاد.
وهكذا سقطت الحجج والدلائل أمام الإسم في وعيه، سقط العلم ولم يجد مكانا يأوي إليه في مداركه، لأن هواه الأدبي، رفع العقاد للصدارة التي لا تقبل النقد.
ولعلي أقول الآن: ما أكثر ما يجني الأدب على ثقافتنا الدينية، حينما يكون ذريعة المدافعين عن أدباء أخطؤوا في حق دينهم.
ولو أنهم أعطوا للدين نصف ما أعطوا للأدب لتكشفت لهم دروب الحق والحقيقة.