ما رأيت أحدًا يحب أمه كما رأيت من شيخنا العلامة المحقق الكبير فضيلة الدكتور النبوي شعلان.
وحق له أن يحب هذه الأم، فقد كان وحيدها الذي شملته بحبها ورعايتها وعنايتها وتربيتها الفائقة في هذا الزمن العزيز، حتى تعلم ووصل إلى المراتب العلمية العليا، بفضل هذه الأم التي وقفت تدعمه وتحفزه وتنفذ فيه رغبة والده الذي أوصاها أن تكون معه حتى يكمل تعليمه في الأزهر، لعله أن يفعل مالم يفعل، أو يحقق مالم يحقق، مات الأب الشيخ عبد الواحد شعلان، وترك هذا الصبي أمانة في عنق هذه الأم التي كانت تسمى (سلمى) وكان ابنها يصفها فيقول: كانت فعلا سلمى وهو عند العرب اسم جبل، فكانت فعلا كالجبل عزيمة ومضاء.
وكان النبوي شعلان أحيانا يتمرد على على التعليم الأزهري، فكانت هذه الأم تقف في وجهه وتقول له: لن أستطيع أن أحيد عن وصية والدك إلا في حالة واحدة، وهي أن أموت، وحينما أموت قبل التنفيذ، فافعل ما تريده، ولو أردت أن تفعل أي شيء آخر في حياتي، فلا تدخل علي الدار، حتى لا يقول الناس: أضاعت وصية الحاج عبد الواحد.
خرج النبوي شعلان منذ أن كان صبيًا محاطًا ببركة هذه الأم، وكرامة هذا الوالد العالم الأزهري الذي مات باكرًا.
ذكر لي أنه من عجائب هذه الأم أنه كان يأتيها الهاتف كثيرًا وكنا نتعجب من ذلك، فكان أحيانا يأتي في روعها ذكر فلان، وأنه قد يأتينا، فما نلبث إلا ونجده يطرق الباب، وأمثلة من هذا كثيرًا، وكان أمر هذا الهاتف مما له العجب في حياة النبوي شعلان منذ يفاعته وحتى بلوغه مبالغ الرجال، وكأنه قد ورث هذا الحال عن أمه.
وكان مما ذكر..
لقد مات والده وهو ابن 13 سنة في الصف الأول الإعدادي، وفي الفصل الدراسي حيث كان يجلس في الدرج الثاني، لأنه كان يعني حساسية في الصدر، التي يمكن أن تتضرر كثيرًا بسبب رذاذ التباشير من شروح المعلمين.
وفي ذلك الوقت أو ذلك اليوم كان يشرح لهم مادة الرياضيات الشيخ عوض حشاد، وكان هذا المعلم قصير القامة، ولكنه كان من أنظف خلق الله ونزهة في الملبس.
وبينما الطالب النبوي جالس والأستاذ يشرح، جاءه الهاتف في اليقظة يتردد صداه في روعه بهذه الجملة: أبوك مات.
فصمت وجاءه مرة أخرى وثالثة بنفس الجملة المؤرقة: أبوك مات.!
فنظر إليه الأستاذ وكان من عادة الطالب النبوي معه، أن يسأله كثيرًا لأنه كان يحب الرياضيات، فلما رأى صمته قال له: يا ولد لماذا لا تسألني؟
فقال له التلميذ النبوي: أبي مات، فضحك زملاءه ونهرهم الأستاذ على ضحكهم، فقالوا له يا أستاذ إن أباه لم يمت، فرد النبوي وقال للأستاذ: لا أبي مات، وإذا بالشيخ عوض يصفعه على وجهه بضربتين وقف التلميذ على إثرهما دون حراك، حتى جاء الفراش بعد 3 دقائق يطلبه فجرى ليجد خاله يخبره بالمصاب.
ظل النبوي في البيت مدة ثلاثة أيام لا يذهب للمعهد، وجلس حزينا على مصابه في فقد والده، فسأله الشيخ: كنت غايب ليه، فقال له: أبي مات، فقال له متوعدًا: تاني؟ فرد زملاءه على أستاذهم: فعلا يا شيخ إن أباه قد مات.
نادى عليه الأستاذ وخشي التلميذ النبوي أن يضربه أستاذه مرة أخرى، ولكنه وضع يده عليه وقال له: أنا حاسألك سؤال يابني وعليك أن تجيبني، فلما قال يابني، اطمأن النبوي أنه لن يضربه، وقال له الأستاذ عوض: كيف عرفت أن أبوك مات؟
قال له جاءني هاتف لا أعرف من أين وأخبرني أن أبي مات.
فانحنى عليه الشيخ وقبله واحتضنه بأبوة حانية مازال يشعر بدفئها حتى اليوم فهو يقول: (لا أنسى حضن الشيخ حتى اليوم) ثم قال له: سامحني يابني سامحني يابني.
******************
روى لي أنه كانت تأتيه بعض الإلهامات الغريبة العجيبة، فيوما ما كان يقرأ القرآن في الحرم المكي أمام الكعبة، وجاء في خاطره ذكر تلميذ من تلامذته السعوديين، واسمه طه عويضة، فقال في نفسه لو رأيت طه الآن؟!
وإذا به ينظر أمامه فيجده يطوف حول الكعبة، فنادى عليه بأعلى صوته: يا طه، فوقف فأقبل عليه النبوي يريد احتضانه فإذا باثنين من الحرس يمنعانه، فيقول لهما: دعاه فهو أستاذي، وأخبر أنه صار كبير القضاة في المدينة المنورة وهؤلاء حرسه الخاص.
*********************
وكان من أشد الإلهامات التي حدثت له في كلمة تتايع، حينما كان يحقق كتاب العمدة لابن رشيق، فقرأ هذا اللفظ في سياقه في جملة من الجمل مكتوبة بـ (يتتابع) وفي النسخة التي أخرجها الشيخ محيي الدين عبد الحميد، فقد كتبها في الطبعات الثلاث يتابع بالباء، ونقلها من نسخة الخانجي 1907 مكتوبة كذلك يتتابع، وجاء من بعده أمين هندية عام 1917 ونقلها يتتابع.
شغله هذا الحديث 13 سنة وذكر في الهامش: لم أعثر على شيء يدلني عليه، وفي يوم من أيام الشتاء وهو نائم وجد في الرؤيا من يقول له: إلا أن يتتايع، فنام مرة ثانية وثالثة، فجاءته ثلاث مرات بنفس الهاتف، فأدرك أن في الأمر شيئًا، فقام إلى لسان العرب فوجده ينقل الحديث بلفظ يتتايع بالياء، فعرف مكانه ووصل إلى اللفظة الصحيحة، ووجده في غريب الحديث لابن الأثير.
قال سعد بن عُبادة رضي اللّه عنه: إنْ رأى رجُل مع امرأته رجلا فيَقْتله تقتُلونه وإن أخْبَر يُجْلَد ثمانين أفَلا يَضْرِبُهُ بالسَّيف ؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : [كفَى بالسَّيف شَا] أراد أن يقول شَاهِداً فأمْسَك . ثم قال: [لولا أن يَتَتايَع فيه الغَيْرانُ والسكران]
ومعنى التتايع كما في لسان العرب: الوقوع في الشرّ من غير فِكْرةٍ ولا
رَوِيّة.. تَتايَعَ الرجل: رمى بنفسه في الأَمر سريعاً.
وتَتايَعَ الحَيْرانُ: رَمى بنفسه في الأمر سريعاً من غير تثبُّت.
*********************
ومما ذكر كذلك من عجائب ما حدث له أنه وهو في المرحلة الابتدائية الأزهرية، عام 1952م وقبل قيام الثورة، حيث كانت تموج هذه السنة بكثير من الإضرابات، مُنع الطلاب من الدراسة وجلسوا في البيوت، وهنا قام النبوي بحفظ المناهج الدراسية استعدادًا للامتحان، وحينما جاء وقت الامتحان، كانت اللجنة مكونة من 14 طالبًا فقط ويراقب عليهم الشيخ العبقاوي، وكان رجلا منيرًا مهندمًا، وفي مادة الفقه على المذهب الحنفي استطاع النبوي أن يجيب على كل الأسئلة، إلا السؤال الأخير فقد استعصى عليه، وكان عن زكاة الإبل.. ورغم أنه كان يحفظ المادة إلا أن إجابة هذا السؤال طارت منه وأفلتت من ذاكرته، لا يعرف السبب في هذا مع حفظه للمادة حفظًا قويًا.
وقف الطالب أمام السؤال الرابع، عل الإجابة تأتية ويتذكرها، فوضع القلم على الورقة وجلس يفكر ويستدعي ما حفظه، ولكن لا سبيل ولا مجيب، وأخذ ينظر من النافذة على المزارع المحيطة بمعهد منوف الديني، وفجأة يجد أوراقًا ممزقة من كتاب يطيح بها الهواء يمينا ويسارا، وكان مراقب اللجنة الشيخ العقباوي ينظر إليه ويبادله النبوي نفس النظر، وما هي إلا لحظات حتى وجد ورقة من هذا الورق المتطاير تهبط عليه وتستقر أمامه، يقول شيخنا النبوي: (وكأن هناك من أمسك بها ووضعها أمامي) ومن عجائب ما حدث له في حياته وما زال إلى اليوم يتعجب له، أن هذه الورقة من كتاب الفقه، وكان فيها جواب السؤال الذي استعصي عليه، وبمجرد أن قرأ أول كلمة في الورقة حتى تذكر الإجابة كاملة.
لمح مراقب الدور هذه الحادثة، وأراد أن يأخذ التلميذ بجناية الغش، فمنعه الشيخ العقباوي وقال له: والله لن يكون فهذا رزق ساقه الله إليه.
وبعدها نظر إليه الشيخ العقباوي وقال له: هل كان في الورقة إجابة؟ فقال له نعم.
هذه الحادثة تقف أمامها مندهشًا، فلا تعلم هل هي كرامة أم دعوة أم؟ وكان يمكن للطالب أن يتجاوز هذا السؤال، ولا شك أنه سينجح ويحقق الدرجة المطلوبة لاجتيازه، لكن الله تعالى أبى لهذا الفتى الذي تحصن بدعوات أم تقية صالحة، إلا أن يبلغ درجة التفوق، وكأنها إرهاص بذلك التفوق العلمي الذي سيحوزه في مستقبله، ليصير اليوم من كبار العلماء وأعلام المحققين.